الفصل الرابع من رواية " حارس النسيان "
ــ 4 ــ
و لو ــ بتأكيد العاجز ــ قدرت حسن النية ، لو كان بالإمكان تجميد براكين الهم و صلب جروحي فوق أسوار المقبرة المثقوبة لرأيت في حيرتي عجائب الواقع، لكنك لا تقبل إلا بلغو المضروبين على رؤوسهم، و الاحتراس معك واجب ، و تسليمك بواجب الاحتياط من بنود كل ما من شأنه أقرب من حبل الغسيل .
حبل الغسيل أم حبل الوريد ، لست أدري ، و دمائي المستباحة تطارد غيبة القابعين الصامتين الحالمين بنوم ثقيل يحجب تفاصيل الجسد الممدد فوق موائد أصحاب الوزيعة و جوعهم الخرافي .
و في نفس الآن ، لم يحضر " حميد " و لا تكلم " سعيد " ، و بنات الحاضر يعرضن ألوان الإغراء في موسمهن الخالد .
خرج " عمر " من انحراف اليسار ، معلم عازب قارب الأربعين ، وجه عبوس تركت عليه شمس البادية آثارا بارزة، صافحنا و قال : " واااااااا عليكمو السالااااااام " ، أجبته مبتسما " " وا عليكمو التيساع " ، و مثلما يفعل مع أطفال المدرسة ، تحاشى النظر لــ" سعيد " و سألني عن سبب تلحين لفظة السلام ، قلت له : نحن نعرف السبب ، و قصة الفقيه العجوز حفظناها منذ لفظتنا مدارسكم و طردتنا قرارات " الطرشة " الطائشة .
كنا نضحك كلما سمعنا السلام بنفس الطريقة ، نتذكر التفاصيل و لا نمل من إعادة نفس الحكاية ، تتحول ظلمة الليل إلى صهد الظهيرة ، الفقيه العجوز يجلس كعادته أمام حانوت الدرب الضيق ، يردد ملحنا قصيدته الفريدة " بركة الإمام " ، لم نسمع لقصيدته في يوم ما بداية ولا نهاية ، و لم نكن نهتم بذلك ، لكنه كان يتوقف عند مقطع محدد ويغير الإيقاع ، يشرع في التصفيق كما لو أنه وسط جوقة عميان ، يرفع صوته ، يضغط بقوة على السواكن ، يطيل الحركات ، يصبح الإنشاد غريبا ذا إيقاع جنائزي مؤثر ، ثم كأنه نسي اللجن الأول ، يعيد المقطع يإيقاع مغاير ، ينشد :" و وجه الصفا لرحمته نحن ننتظر " ، تغطي شتائم باعة الخضر البديئة صوت الفقيه و بركة الإمام ، يتابع شاردا ركض الأطفال المجنون وراء كرة بلاستيكية مثقوبة ، يمر قربه " ولد الجعبة " يلقي بالسلام عليكم على عجل ، يرد العجوز دون تركيز: " وا . . عا . . ليـ . . كمو . . السا . . لا . . م م م " ، يفاجئنا جديد الإيقاع ، يقينا أنه في غمرة الشرود ، و متابعة ركض الأطفال ، و لغط الباعة ، و اللحن الأصلي ، و سلام " ولد الجعبة " العسري ، و انتظار صدقة من لا يرحم ، أمور تداخلت مع ضرورة رد السلام ، انفجر ضحكنا في صخب و هيستريا ، التفت نحونا بعض الباعة، توقف الأطفال عن ركضهم ، الجميع حدق فينا، و كنا لامبالين نضحك ، ننظر جهة الفقيه العجوز و نضحك ، و لم تخمد قهقهاتنا إلا بعد أن استغفر و لعن الشيطان واستعاد المقطع إيقاعه الأول " و وجه الصفا لرحمته نحن ننتظر " ، " و للكروب وعده أيسر دواء " .
و عدنا لظلمتنا ، شردت نظرات " عمر " ، زاغت نحو اللامرئي ، تأفف و قال الرحمة على زمن السلام ، إنما هل معكم ما يدوخ العقل و يرحل بالوعي ، أجبت بالنفي و أضفت : " انتظر سيأتي " حميد " بزاد الليلة ".
طلب منا تسوية حيز مكاني ليجلس و يترحم على عقولنا بأرقى مشتقات نبتة الغياب ، تزاحمنا فوق العتبة الضيقة ، ثلاثة أجساد تفترش الإسمنت البارد ، و طابور العابرات لا ينتهي ، إناث بارعات في طقوس التحمل و الغياب و التواءات الرعشة الموؤودة ، و رؤوس ثلجية تتفتت تذوب فوق نار الزمن الملغومة .
صنع المعلم " عمر " لفافة تبغ أمريكي مخلوط بدقيق العشبة ، كعادته أتم العملية باحتفالية مضحكة ، أشعل اللفافة ، عب نفسا طويلا ، النار تأكل تبغ الأرض الداعرة ، ستحرق شاربك ، قلت ، بأمريكا و عشبة الغياب ، قال ، تحترق الأجساد و نعيش نشوة العصر الملغومة .
و كانت البداية ، استمر الدخان الأمريكي في رسم أشكاله و احتضاره المألوف ، مد " عمر " باللفافة لـ " سعيد " و قال ، من اليسار و لو كان " يوسف " على اليمين ، ضحكنا ، قلنا : تلك قوانين اللعبة .
حل دوري لحشو الرأس بدخان أمريكا و خليطه المشاع ، قمت بالواجب و انتظرت غياب اللحظة ، كلنا هكذا ، نأخذ نفسا طويلا ، تشرد الأفكار ، تشتعل الأحلام ، نخمدها ، تحضر الأوهام ، نطردها ، و حين يأتي الدور علينا ، نستعد لرحلة الهروب ، ننسى شقوق الذاكرة المطلية بشعارات الواجب و الكائن و ما لا ينبغي أن يكون .
و برد المساءات الحزين ، انجذاب العمر نحو متاهات الصمت و التواطؤ ، و كل " الطرشة " قبر وديع يستقبل موتاه بالذي يلزم من اللطف و حرمة الحفرة المظلمة ، و ذاكرة من لا ذاكرة لهم ، و شرود جيل تعيس ، و تعب " للا خديجة " ، و الحصيلة : خواء عبثي و عجز بليد يبحر في مراكب الموت و جنون الساقطين بقوة القانون و فعل سوء التقدير .
سألت " عمر " عن جديد " الحمداوي " ، الكلام حوله هراء ، قال ، و الحديث عنه بالأمانة المطلوبة مغامرة محفوفة بكل أنواع المزالق و المخاطر ، و رغم ذلك ، قلت ، تكلم و نحن نفهم !!
كنت أدرك أن " عمر " سيدخل إحدى محطات الإقلاع ، أعطانا حقنا في الغياب لكنه قد حضر، لا الأجساد العابرة موجودة و لا شارع النعامات هو الأوحد ، و عادة الجميع أن تتأسس الحكاية وراء أسلاك الحيطة و ادعاء البراءة بالعبور بين ممرات المعتاد و المطلوب و ما من شأنه . . و الأمر غير محسوم في النهاية .
تأكدت العيون من بعد الآذان الطويلة ، تحرك " سعيد " ، أخرج جريدة " الوصية " للمرة الثانية ، فتحها على نفس الصفحة ، حدق في الصورة ، رمى بالجريدة في حضن المعلم ، و مثل من يجعل نهاية لمشهد لم يعد يثير العجب ، قال :
ــ هذا هو الرجل في " الطرشة " و كلنا نساء ! !
رد " عمر " :
ــ حتى النساء نهضن ، أقمن هامشا للحق و الحجر
أطفأت اللفافة ، و تدخلت :
ــ عن أي امرأة تتحدثان . . و أي زمن تعنيان ؟
ــ عن كل النساء ، عن " للا خديجة " أخت " سعيد " و عن الخليلة .
ــ و رجولة الكادحات ، انسحاق الأنثى ، يأس الذكورة .
ــ و الحاضر الداعر ، و المستور ألغام طريق مدفونة .
بالتأكيد ، قلت ، لو استمر كلامنا عن " الحمداوي " بهذه الطريقة لغرقنا في بحر الشك و العبث و الغصات و كان من حقك أن ترمي بأوراق هذه الحكاية حتى لا تدوخ و أنت الغارق في همومك اليومية و زيادة . . ياك ! !
لكن .. هون عليك . . هذه سيوفنا الصدئة تعارك الزمن و نحن عراة سوى من أسمائنا ، و برد الصباحات القاسي ، انتشار الغيبة و الخيبة ، مطر أكتوبر الهارب ، والهزائم قذائف من مدافع البغال ودبابات القرود وأثرياء البلادة و القدود المعروضة و بنات آخر العنقود .
ثم أعود لأسألك ، هل من حق العاطل مثلي تنميق الكلمات ، و قطع الأغصان الجارحة لتتحول الحكاية إلى مصيدة تتحايل على تفاصيل القبر و العجز و القهر و سبق الإصرار ؟ هل المطلوب حياد البناء و الإقرار المسبق بخطوط سوية تضمن تواصلا هادئا يرغب في توسيع حلقة الغائبين في نفس الحيز المهادن ؟ ! !
لست أدري أمِن حقي إخفاء جرح الكائن ، و احترام حدود المألوف و الحكاية روايتنا ، اسمنت لعين يسكن الجماجم ، يسدها ، و " الطرشة " بوهمها تنام تحت غطاء الظلمة بين صخور المحيط و أسوار الخلجان المستباحة ، بيوتها تركب بعضها البعض ، و النوافذ في حجم الشواهد ، و " الحمداوي " يفضح و لا ينصح .
و عجبي من أضداد لا تبكي و لا تفصح . .
و شارع النعامات مزدحم بالعناوين و العلامات . .
و نحن الأسماء الواقعة تحت سطوة الرغبة و حرقة الدواخل ،
تدركنا شظايا اللعنة ،
نقرأ " الوصية "،
نرى " الطرشة " بعين " الحمداوي " ،
و ترمينا الأيدي في فرن العشيرة . . .
فيا " يوسف " . .
اترك " الطرشة " على حالها . .
فتلك مسألة كما قال " حسن " فيها نظر . .
اسمع . .
هل قرأت الحكاية . .
هل حفظت كلام الهادي . .
زعموا أن بلدة منسية في رحم التاريخ ، أصابها السحر و دخلتها الشياطين من كل الأبواب ، هكذا شرعت " الوصية " في بسط البدايات ، و زعموا أنها لاهية بالليل فقيرة بالنهار، سكانها الشرقيون عاطلون يلغطون ، تحت خيامهم الواطئة ، يقدفون فروج البئيسات بماء المعدن الرخيص ، تستمر وقائع المرضى و خرافات العطش المتناسلة ، و حين يكشف الفجر ذيول الفضيحة ، يموتون . . أما سكان الجهة الغربية فالجعل " بوجعران " تفل في أيديهم و تركهم يركضون يتقافزون و يتعبون دون توقف و نهارهم ظلمة من نوع مغاير .
لا ، لم تكن حكاية " الوصية " بهذا الشكل ، بل كان الكلام تشخيصا ملتاعا لفضاء أصابه السحر فاختلطت فيه المقاييس و تشابكت الأوصاف ، لذلك لا معنى في الجهات إلا للظلمة و الصمت و العطالة البلهاء ، و " يوسف " يعيش وهم القفز فوق الخرائط و جرح العتبات .
و غير مهم أن تسأل عن جنس الآدميين و حركاتهم تفضح الرغبة و انطفاء الحلم في موطن السلام . . لا ، ليس ذاك أصل الوهم ، إنما هو منبع الهم يخلط ألوان الحدود الرملية بشذوذ هذا الجنس البائد من بني البشر .
و كل الهموم من السؤال تبدأ ، انبتت " الطرشة " فوق اليابسة خيمة وبرية أدركها عقم الرحم و تحولت إلى أوتاد صدئة و أشكال هندسية غريبة لشواهد و قبور مطلية بلون الغروب و الواجهات المعروضة بريق مستورد فوق أرض جرداء انفجر ماؤها جراحا سوداء رائحتها تعمي الأبصار و انقسمت القبائل و العشائر إلى جماعتين .
جماعة بتاء التأنيث اعتزلت زاوية شرقية مدت فيها شوارع ثعبانية و أضواء بلون الغباء الشاذ ، رأت في الماء فرحا و من جرحه كسبت دولارات أقامت بها أعراسا أغرب من الخيال ، و حين انتهت أوقفت عند الأبواب العطلانة حراسا أشداء يمنعون ولوج كل قادم غريب لم يعترف ببركات الماء الأسود .
وجماعة غربية خرجت بالنهارات الباردة تجلب لوازم الدفن و تهيئ طقوس الفناء ، فكان العرس موتا و اللغط صمتا و النشيد مناحة أطول .
و " الحمداوي " صاح ينادي عرس الأضداد ، قال لأهل " الطرشة " الطيعين الصامتين : " يا قومي إني جئتكم نذيرا فاسمعوني لعلكم تتكلمون ، بالشرق جرح و بالغرب وهم و ما بين الضفتين جليد و أسلاك و أشواك بحجم العيوب المتناسلة . . و يا قومي إني أجيئكم بشيرا لو تسمعون " .
و استمر الكلام إيقاعا واحدا يساوي بين أسماء العشيرة و أبناء الكلبة و الناقة و بقية أعضاء الحمير المربوطة داخل إسطبلات " الطرشة " المحروسة .
فيا " عمر "
لم يسألوا " الحمداوي " . .
و لم يحكموه . .
لكنهم غيبوه . .
و هنا قلب الحكاية . .
حلت بـ " الطرشة " لعنة " الحمداوي " ، استباحها الكهنة و المنجمون ، أصابنا رعب الخواء ، و لم نكن ندري ، أو ربما هكذا قالت " الوصية " و نحن صدقناها ، و " حميد " ابن العاهرة عولنا عليه و لم يحضر ، غاب عنا و طلب الانتظار ، و لولا بركة المعلم " عمر " و معرفته بخواء الجيوب و هلوسات الجماجم المحشوة بزبالة الوقت لكنا الآن فوق برد العتبة نلهو كالحمقى بإحصاء خطوات العابرات بشارع النعامات. . و لا نتحرك .