.... أمي لا تتكلم- هذا ما عرفته فيها فيما بعد - كان الصمت وجهها الثاني، ونكرانها للذات يلف كل اللحظات، أبي جامح كالثور ينتظر فريسته بكل عزم واستعداد وكأنه سيدخل حلبة الملاكمة، ابتسم أخوه الضاوي وصديقه المقرب بوحسين، ثم ضربا أبي على ظهره وهما يقولان له:
--- كن سيد اللحظة يا محمد.
ثم يتبعان كلامهما بقهقهات مدوية " إو النهار الأول إموت المش"
لأول مرة يظهر ذلك الخجل الشرقي على وجه أبي وهو يرد عليهما:
--- الله يستر هذه الليلة
دخا أبي الغرفة ثم أغلقها بإحكام، بقي الكل في الخارج، كان التوتر في احتفاله الأزلي، الأعصاب مشدودة والخوف منتشر في كل أرجاء الدار، خالتي خوفا من العار وعائلة أبي خوفا من ثقاف ما، كان الجميع يتمركز بالقرب من الباب، جدتي تنتظر ولدها الفحل كي ترشه بالملح والقطران دافعة بذلك عنه الأرواح الشريرة، معلنة أن الدم كان، وأن الرجل فحل أبا عن جد، فعائلة أبي لم تخذلها رجولتها أبدا ولم يسمع عنها أبدا أن أحدا من رجالها قد أصيب بالثقاف، أو لم يستطع أن يتمم مهمته المقدسة، هذا يعود بالطبع إلى تلك الاحتياطات التي تقوم بها الأسرة قبل دخول فرسانها إلى الميدان " مسامير على الباب، صفيحة الفرس، قرن الماعز الملطخ بدم الخروف، وقطران في كل مكان، وشوكة العقرب..." وأسياء أخرى أخرى يصعب ذكرها.
بعد ساعلت من الانتظار أمام الباب، خرج ابي وهو يتصبب عرقا، ثم التحق بالمدعويين، حيث انتشرت الروائح الكريهة المنبعثة من الأحذية البلاستيكية بفعل حرارة الصيف، بقيت أمي قابعة داخل الغرفة يأكلها الخجل والخوف، لا تفهم ما الذي جرى، دخلت خالتي صاحبة الخبرة الطويلة والتجارب الكثيرة تحمل عصير بعض الأعشاب.
--- خذي أشربي ياأختي، هل كل شيء على ما يرام؟
حركت أمي رأسها تعني نعم، وأن الدم كان، وأنها لم تجلب للأسرة عارا يذكر، ارتمت خالتي على بعض الأقمشة الملطخة بالدم، ثم خرجت مهرولة مسرورة وكأنها وجدت كنزا غابرا، ثم أطلقت العنان لزغرودة قوية جعلت بحشد النساء المرابطات بالقرب من الباب ينطلقن في اتجاهها ، الكل يريد الإمساك بطرف الثوب، ورؤية بقع الدم الحمراء، خرجت خالتي من الغرفة وبقيت أمي لا تفهم شيئا، حين يضيع ما حرصت عليه طيلة حياتها، وكانت تتعهده بالعناية المقدسة، أن يغبيب بهذا الشكل البسيط، عادت لها كل الذكريات وكل الكلام عن هذه الأشياء، وكل الأساطير التي نسجت حول العذرية، حول ذلك الغشاء المطاطي المظلم اللعين، الذي رغم تفاهته يحول حياة المرأة جحيما، بقيت أمي تائهة تبحث عن جواب لعشرات من الأسئلة، تسأل نفسها:
--- أكل هذه "الهندريزة" من أجل نقطة دم لعينة؟
وهكذا ظلت أمي وباتت تحمل سوء الفهم هذا، وكي أكون أنا نتيجة هذا السوء القسري، أمي ضيعت الأجوبة وأنا أحترق بآلاف الأسئلة.