نكران الجميل استأثر باهتمام شعراء الملحون
أبدع “شيوخ الكلام”، قصائد ملحونية رائعة بمعان مختلفة زخرفوها بشكل ميزها عن كل ألوان الشعر في عاميته وفصاحته، وتلاوين الغناء في إيقاعاته. وتستحق قصص تجاربهم، إبحارا وبحثا قد لا تكفي محدودية حلقاته، في محاولة نفتح أعين القارئ فيها، على حقائق مذهلة نترك إليه، اكتشافها.
«الحبيب اللي ما ينفعني ف يوم حزات، ما نحمل على قلبي غل من كلفتو. أنساه ونترك حسو ونحسبو مات ونعد راسي زليت وتبت من عشرتو. كان لي ولف مع روحي يظل ويبات ما خرقت عليه عقيدة ولا نكرتو. ومنين بغا يحققني بيه رب الأشيات، وعد سيدي جاني على معطى حمدتو». كلمات أوردها العالم عبد القادر العلمي الملقب ب»قدرو العلمي»، حين فوجئ لجحود صديق له لازمه خلال مدة طويلة من حياته، لكنه لم يعره اهتمام حين أقعده المرض لأربعة أيام وخمس ليلات، ليتضح أن نيته غير سليمة وعلاقته به كانت مبنية على الطمع وليس الحب والتقدير والاحترام. هذه القصيدة التي تحدث في مطلعها الأول عن مرضه لكن «ما وصلني، ما بشرني ولا نظرتو»، قال في حربتها «اللعب من غير شطارة فوق روس حربات، هكذا مثلت بنادم ف عشرتو»، للبرهنة على مآل صداقة مبنية على الطمع من صديق كان يعتقد أنه يحبه ويجله إلى حين مرضه.نكران الخير والإحسان والغدر، كان موضوعا لعدة قصائد أبدعها شيوخ الملحون في مواقع وأزمنة مختلفة، لخصوا فيها لواعجهم وما تعرضوا إليهم من أصدقاء وحتى زملاء في هذا الفن، كتبوها بحبر الحرقة والندم، واختاروا لها عناوين مختلفة، عادة ما اتخذت أسماء حيوانات، عرفت بمكرها وعدم وفائها.
ونظم الشيخ العربي المكناسي تلميذ عبد القادر العلمي، قصيدة حول نتائج مرافقة الأشرار، جاء في حربتها «البلا ف الخلطة والربح ف الاعتزال. اللي تقول حبيبك، تلقاه سم قاتل»، ودعا الشيخ الشاوي المراكشي، قلبه إلى التوبة، من نسج علاقات غير مجدية ودون نفع أو احترام.
«توب يا قلبي من المعارف واعمل خيرة في سوق أهل الأفعال المعيوفة، ما فيهم معروف».. ذاك ما قاله المراكشي، فيما نظم قدور العلمي قصيدة في القلب، قال فيها «قلبي يا قلبي، توب وانتهى من الهوك (اللهو) ورميه وعلم ما باقي من تعاشروا وتنصحوا وتنبهوا وتنهيه على المعيوبة». واختار الشيخ محمد لحلو، اسم «الفار» لقصيدته التي هاجم فيها الطفيليين والاستعمار، وقال في حربتها «درت مصيدة للفار حاط بي، لولا عمات ليه لابصارو. أش داه وأش جابو للخاتم (الوطن)، قبل أن يضيف «من الكوايز طلو عني خناشش الويل، اعزافرهم يتراعدو على الايدام».
ولم يكتف بذلك، بل كشف نواياهم الحقيقية، بقوله «باغيين يديو خير البلاد»، و»النية ف أولاد الحرام قليلة»، فيما قال محمد بن علي العمراني، «ما صابت ناس المعرفة، عساك ما ندير صحبة. الأحمق اللي يدير من هل السوء اصحابو»، فيما خاطب الشيخ أنجار، صراحة ناكر الجميل بقوله «سير يا ناكر الإحسان، اللي تشيط وراك بالقهر يبان البرهان، فيك أمن خان حبيبو».
ولعل في خيانة الشاعر محمد بنسليمان، لشيخه محمد بنعلي، قصة مثيرة نظم الثاني فيها قصيدة أسماها «الديب» بالعنوان نفسه لقصيدة أخرى نظمها الشيخ الكيحل، إذ يقول في حربتها «شوفو طيري جاب لي ديب عوض غزال، يا من تسال لولا جهالتي فرخ الدياب ما يتربى. قالوا الناس وأنا ربيتو».
وأورد محمد بنسليمان، قصة مثيرة للشيخ محمد بنعلي في «نزاهة»، عمد خلالها إلى نزع سرواله، والصلاة فوقه، للبرهنة على أنه لم يكن خائنا أو ممارسا للزنى، عكس ما اتهم به، من أعدائه وكان سببا في تفكك علاقته ببنسليمان، الذي لازمه في مرحلة طويلة من حياتهما رغم تباين سنهما.ولم يكن بنعلي راضيا عن محاولة تلميذه، اتخاذ شيخ آخر له، بعد أن عاشا فترة طويلة جعل منه أحسن أشياخ مدينة فاس وأحسنهم نظما ومضمونا حتى قيل عنه «كأس الشليمان (السم) ولا كلام بنسليمان»، منذ اكتشافه في مناسبة أقامها السلطان عند حلول فصل الربيع لاختبار الشعراء.
في تلك الحفلة التي أقامها السلطان محمد بن عبد الله، على شرف شعراء الملحون، أشاروا بالأصبع إلى هذا الفتى، محاولة منهم لتعجيزه، بعد شكهم في أنه شاعر فاشل وأن القصائد التي ينظمها ليست من بنات أفكاره، داعين السلطان إلى التحقق من أمره، لكنه أبهرهم بإبداعه قصيدة وغناء أخرى.
الصباح حميد الأبيض (فاس)