أبدع "شيوخ الكلام"، قصائد ملحونية رائعة بمعان مختلفة زخرفوها بشكل ميزها عن كل ألوان الشعر في عاميته وفصاحته، وتلاوين الغناء في إيقاعاته. وتستحق قصص تجاربهم، إبحارا وبحثا قد لا تكفي محدودية حلقاته، في محاولة نفتح أعين القارئ فيها، على حقائق مذهلة نترك إليه، اكتشافها.
تتنوع المواضيع التي تحظى باهتمام فن الملحون، وشكلت مصدر إلهام ل"شيوخ الكلام". وتشكل الحرارز والخمريات، أهم ما اهتم به، إلى جانب الغزل المذكر وقصائد في الجافي والتوحيد التي لا تشبه بعضها، وفي مدح الرسول وأهل البيت، والهجو والمجادلة بين الشيوخ، والتراجيم أو المحاورات.
وإضافة إلى ذلك وقصائد الساقي، يحضر الغزل بثقله في العديد من "الجعفريات" وقصائد "الشمعة" و"الحجام"، فيكون النص دوما، "فضاء سفر في الزمن النفسي، ويكون كل واحد من مكونات العالم الخارجي الحاضرة فيه جزءا من صورة العالم النفسي الداخلي وحلم اليقظة الذي تصبو إليه الذات".
حينها يحتار العاشق ويتيه عن الطريق، وهو يستفسر عشيقته عن سر طول فترة التيه خاصة في القسم الأول من قصيدة "طال تيهانك يا محبوبي" للشيخ مبارك السوسي، بقوله "عمري ما نويت أخيالك عني يغيب، بعد الموالفا وشروط الصحبة، برموك أصحاب العتبة، وأعلاش طولت ذا الغيبة، الجافي خاف على دنوبي، جرح قلبي أهواك جرح اللي صبت طبيبو، جرح الزين صعيب". ولا تغدو الحدود بين الموجودات ومظاهر الطبيعة، في خدمة المحبوب النموذج وكشف عاطفة الشاعر بما يمكن من معادلة اللغة للعاطفة بشكل موضوعي، وهو بذلك باحث في "الزهو فكتوب التنزيل " لأحمد بورقية التي حاول فيها تلمس الأسرار الموهوبة من الكريم العالي داعيا إلى الزهد بقوله "كن زاهد فالقال أو قيل والزهو هو التأمل فالحديث أصغالي في أحكام الذكر المنزول".
وتختلف طرق التعبير عن لواعج الذات والمكنونات ونبل الأحاسيس والشعور حيال الآخر، بشكل قد يتحول معه الشاعر إلى مرشد اجتماعي كما في قصيدة "يا عاشق صن هواك" لعبد القادر العلمي التي يقول فيها "يا عاشق صن هواك فاحجابو ورض أحكام من تهواه وطيعو وكن عبد ملازم فلباب".
ويعكس التوجه الديني "للملحون"، البيئة التي ترعرع فيها وسط الفقهاء والعلماء الذين عج بهم وبكل محبي الخالق تعالى، إلى حد لا تكاد فيه أي قصيدة تخلو من إشارات ذات بعد ومعنى روحاني. والأمثلة كثيرة في هذا المجال يمكن فقط وعلى سبيل المثال، البرهنة بقصيدة "الصرخة". وفي تلك الصرخة، يبتهل عبد القادر العلمي إلى الله مسترحما ومستعطفا سبل شفائه مما لم به بقوله "يا من أبلاني، عافني أرحمتك أنال خف ثقلي يتسرح يرتخا عقالي"، واضعا أمله في الله عز وعلا، لبث شكوى عبد ضعيف أمام مولاه، المفتوحة كل خزائنه في وجه عباده.
"إذا شكا العبد على سـيدو، يزيد يقبال يحررو ويديرو فمراتب لمعالـي، باب لجابا عندك ما تسـد بقـفـال أمخازنك مفتوحة للساعي أبحالي، من عندي أنا الدعا ومن عندك لقبول والحـاجا مـا تكون فيها تعطلا".. يقول ذلك دون أن يشك أبدا في قدرة الله على شفاء العليل وإغناء الفقير ورفع الوضيع. ويزيد ذاكرا قدرة الله في ذلك وإسعاد الشقي وغفران الذنوب والمعاصي، بقوله "إذا ردت بحكمتك تشـفي لعليـل وإذا ردت الفقير يرجـع ذو مالي، وإذا ردت لوضيع يدنا للتفضيـل ترفع جاهو يعود في منـزل عالي، وإذا ردت الشقي تسعدو يا لجليل تغفر لو فما عصاك وتجعـلو والي".
ولم يكتف زجالو وشعراء فن الملحون، بالتوسل إلى الله وطلب مغفرته وعفوه والتوسل إليه، بل اتخذوا من مدح الرسول وخصاله، موضوعا لقصائدهم. ويتضح ذلك في عدة قصائد لا مجال لحصرها، بينها قصيدة "اللايم" شعر المدني التركماني وإنشاد الفنان أحمد أمنزو.
"اللايم خل لعباد كل واحد ف حالو والشهادة بالله وبالرسول تكفي مولاها".. ذاك مقطع من تلك القصيدة في مدح الرسول محمد، الذي تتعدد وسائل وصفه وخصاله وسلوكه الحسن، حيث يتحول إلى "صاحب التاج" في "صلوا على صاحب اللوا" للشاعر الحاج أحمد الكندوز.
و"الحلة والتاج والقضيب والبهى والخاتم، صلوا على صاحب اللوا، صلوا على الذي ضي الشمس أشرق من نوارو والفجر من أسرارو".. كما في هذه القصيدة، وهو ملاذ الغارق في هموم الغرام كما في قصيدة "سيدي محمد" لعبد المالك اليوبي، إذ "هلي ينعم بيه الزمان ونشاهد حسن بهاه تاج البدور الغالي، ملا نهوى من دون صورتو سيدي محمد".
الصباح حميد الأبيض (فاس)