شيوخ الملحون يحضرون اليوم السابع من نزهة سلطان طلبة جامع القرويين
"نزاهة" سلطان طلبة القرويين
أبدع “شيوخ الكلام”، قصائد ملحونية رائعة بمعان مختلفة زخرفوها بشكل ميزها عن كل ألوان الشعر في عاميته وفصاحته، وتلاوين الغناء في إيقاعاته. وتستحق قصص تجاربهم، إبحارا وبحثا قد لا تكفي محدودية حلقاته، في محاولة نفتح أعين القارئ فيها، على حقائق مذهلة نترك إليه، اكتشافها.
على غرار التجار والحرفيين والدباغة والدرازة والخرازة، كان شيوخ الملحون، مولعين ب»النزاهة» عند كل ربيع، وعادة ما كانوا يحلون ضيوفا على الأوائل ويقيمون سهرات «الدباغة» أصحاب الكباحي في ظل اصطفاف جميل على إيقاع التصفيق والتطبيل، خاصة في اللويزات ولمطة وجنانات باب الحديد.
ويحكى أن قصة طريفة لشعراء الملحون كانوا في نزهة ذات يوم، يقودهم شيخ الأشياخ الأكبر سنا في النظامة، وأمين الحرفة، لما كانت منظمة وقائمة الذات يعين على رأسها أمين على يد المحتسب، الذي يفصل في الجدال الذي قد يقع بين الشيوخ والمنشدين ومقيمي الحفلات.
كل واحد منهم تكلف بإحضار «زرزاي» أي «طالب معاشو»، لإحضار «الميدا» (آنية الأكل الخشبية المغطاة ب»المكب» المصنوع من الدوم)، من منزله، إذ كلهم أحضروا «الميادي»، بما في ذلك محمد بنسليمان أصغر شعراء الملحون، الذي أحضر ميدة «مطيبة بالمقلي» وزاد فيها «الحرور والمزاود».
هو طبق شهي النظرة، لكن لا أحد من الشعراء تشجع على التهامه لذوقه «الحار»، حينها خاطبوه بالقول «كلامك شليمان، وجبتي الماكلة شليمان»، و»كلامك حار بحال ماكتلك»، فيما زار محمد بنعلي العمراني، الشاعر الأعزب، الشماعين واكترى «ميدة» ملأها بالفاكهة اليابسة.
اختار كميات مختلفة من التمر واللوز والجوز و»الشريحة»، وكلف «زرزايا» لنقلها إلى موقع النزاهة، فكانت الكلام الذي قيل فيه أفضل مما قيل في زميله بنسليمان، إذ دعا له الشعراء قائلين أن «انت وكلامك فاكهة، وجبت للأشياخ فاكهة»، قبل أن يسموه ب»المعلم».
ولعل من أشهر «النزاهات» التي كانت تقام وانقرضت حاليا، تلك ل»سلطان الطلبة»، ممن يختارون من طلبة جامع القرويين المتفوقين، الذين تجرى بينهم مباراة وقرعة لاختيار «سلطان» يحكم طيلة أسبوع، وتعطاه السلطة الكاملة لذلك في «نزهة» كانت تقام في وادي الجواهر أو واد فاس.كان حاجب «سلطان الطلبة»، يركب بغلا ويجوب كل أرجاء المدينة، ليجمع ما تجود به قريحة المحسنين، من أموال وأشياء ثمينة تخزن في صندوق خاص، تمول به تلك النزاهة، على أن يقام في اليوم السابع، حفل يستدعى إليه شيوخ الملحون، لينظم كل واحد منهم، قصيدة بهذه المناسبة.
«يا مسعدها مع الأحباب نزاهة، كيف كنت نتمناها، بالسرور والهناء واحنا ف قلب قبة ملوكية ف واد فاس، طاب السرور وحلات الفرجة والأفراح. الكاس طاوسي والم للسفرة كي النجوم ف ليلة العشرة. كب وسقي كاس الخمرة غير فترة. جدد الأفراح والهموم نساها».
كلمات خاطب بها الحاج إدريس بنعلي، سلطان الطلبة، مضيفا «شوف قبتك فسماها، كن عذراء والواد قبالها مراية، ما فيه صدا ولا د ناس كسيف صقيل والأرطاف تراها. لونها أخضر واتاها كحمايل عبقرية مكللة بالتبريز تغيب الإحساس، غدر كيسانا وزيد ملاها يا الساقي اللي مضا وننساو أيام التعب والأهواس، لاين ساعة مع الهنا، ما غلاها، فاز من سخا وشراها».
وفي وصف دقيق للحال في تلك «النزاهة» أحد التقاليد الفاسية السائرة إلى الإنقراض، يورد الشاعر، «واد الجواهر بين سداسن النواور، بين الجلاس والأوناس، وانظر للشمس رايحة في سماها. ساعة الغروب غشاها، ذهب وفضة داك الما منين مالت، وذهب الغيار والأهواس، تما شعلنا شموعنا فدجاها فوق شي حسك كتباهى، وبات ساقينا ساهر والأوتار يغسل عين الحضار من النعاس».
ويحمد الله على كيفية إنشاء هذه اللوحة الطبيعية الجميلة، «لله الحمد كيف راد أسناها، كون الأشياء مولاها العظيم، المعبود الدايم الغني مول الملك العاتق الأنفاس. يار اوي خذ حلتي وصغاها. فرجتي كمل معناها والسلام الناس التسليم، من إدريس بنعلي، ما فاحت الأغراس».
وبرع بنعلي في هذه القصيدة، في وصف الطبيعة بدقة، تماما كالعديد ممن اهتموا بذلك ومن جعلوا الملحون أمانة في يد المنشد، حسب ملكته وقدرته على الإبداع، دون خروج عن مضمون القصيدة ومغزاها أو تغيير ألفاظها، على غرار الهرم الحاج أحمد سوهوم في قصيدة «أسماء الله الحسنى».
الصباح حميد الأبيض (فاس)