"السرابات" مقاطع منفصلة وممهدة للقصائد
أبدع “شيوخ الكلام”، قصائد ملحونية رائعة بمعان مختلفة زخرفوها بشكل ميزها عن كل ألوان الشعر في عاميته وفصاحته، وتلاوين الغناء في إيقاعاته. وتستحق قصص تجاربهم، إبحارا وبحثا قد لا تكفي محدودية حلقاته، في محاولة نفتح أعين القارئ فيها، على حقائق مذهلة نترك إليه، اكتشافها.
تعتبر "السرابات" قصائد صغيرة في مواضيع محددة في الطبيعة والتوسل ومدح أهل البيت وأولياء الله الصالحين، وفي إبداء "الوحشة" للغريب والبعيد عن الأعين، والهجو أو ما يسمى بلغة الملحون ب"الشحط" أو "المقراع". ويمكن أن تكون مدخلا رئيسيا للقصيدة وليست مشروطة، بل هي مستحبة، ويلزم المنشد أن ينشد السرابة على موضوع القصيدة نفسه التي ينشدها، وليس العكس، وبشكل يتلاءم بينهما، لأن "المناسبة شرط" كما يقول محمد السوسي، مشيرا إلى أنه يمكن إنشاد السرابة ب"الكباحي" أو "الدريدبة" أي الانصراف أو الحضاري، وفي أي نغمة شاء المنشد.
وتحدث عن تقسيم أولي على آلة الكمان وآلة العود، ثم آلة السويسن أو السوسان أو الكنبري أو "الفريخ"، إذ يصر المنشد أو الحفاظ أو "الكرايحي"، على إنشاد وإنجاز "التمويلة" أي كلام مرتجل، تستهل به القصيدة، ل"ينشد السرابة في ردمتها وينجز تمويلة للقصيدة، وليس موالا".
ويقول أن المنشد يتفنن بعد المرحلتين، في إنشاد القصيدة بالميازين الثلاثة وبشكل متقاطع ومتناسق ومتفاوت بينها خاصة الحضاري والدريدبة والكباحي، كي تكون "الفرجة كاملة" ولاستقطاب المولوع بفن الملحون، والذين يطلعون عليه لأول مرة، لتحبيبه إليهم ودفعهم إلى مجاراة إيقاعه.
و"إن استطاع المنشد أن يثير انتباه المتلقي الجديد، ويجره إلى الاستماع إلى الإيقاع وتذوقه والاستمتاع بحلاوته، فتلك خطوة مهمة لافتتانه بهذا الفن ومعرفة قيمته والمواظبة عليه، ليشكل بذلك ربحا للملحون، يكون فيه الفضل للمنشد الذي أطرب وأبدع" يقول الفنان محمد السوسي.
ويقول إن غالبة السرارب، لم يعرف ناظموها، من قبيل تلك التي يعاتب فيها شيخ، محبوبه على نكران الجميل والهجران، بقوله "ما ظنيت حبيب خاطري يتبدل، عنوا يروم غيري وغدرني بعد الطعام. من بعد حبيب وليت لو طليب. وكثر بين الأعباد عيبي، فعلو ناقص يا كرام".
ويستمر في حكي ما وقع معه مع صديق جاحد، بقوله "حدثتو بحديث العقل، أش عمالي، أش كان عيبي. ليس قبل مني دمام" قبل أن يستدرك، "دابا الايام الطايلا تجيبو والله ما نجفى، عاداه ولا يكر لو بطعام. دابا تعاقبو الايام. يقد اللي يجفى محبوبو بالذنب لا غنى تادى".
ويخلص إلى "والله لا ربح بذنوبو ولا دا اخبار إفادة. فيد الزمان ريت عجوبة، الغدر سار ليهم عادة"، قبل أن يتحول إلى نصوح "صغا وصيتي، عمر فرخ الديب لا تربى، قالو ناس الأقدام، ما يتعاشر صاحب الغدر اللي طبعو جافي يجفاه قلبي. من سيرة أهل الكلام عملت ناقص من معرفتو".
وتضيف هذه السرابة وه واحدة من تلك المشهورة والأكثر تداولا، "جاد علي الكريم ربي عافاني من لا ينام، أجي نوصيك للي سارلو بحالي. نوريك لا تدير فالزمان حبيب، صغا وصيتي راها تجريب. أسيدنا الصحبة اليوم، واعرة صعيبة، والغدار ما فيه طيبة. يغدر ناسو ولا يدير حبيب".
ويقول السوسي إن ثمة عدة سرارب في مواضيع مختلفة خاصة الغزل وجفاء المحبوب، بينها واحدة تقول "علاش يا محبوب خاطري تجفيني. ألجافيني، وعلاش الجفاء. حبيتك من خاطري، لارتيني وكتمنيني، يا شارد العفا، خالفتي في القول باش عاهدتيني، ولا وصلتيني قاسيت ما كفا".
وفي صور بلاغية كبيرة يواصل الشاعر تبيان أوجه جفاء الحبيب، "قال ناس الشعر والقوافي: الزين بلا تيه صورتو تعداف، والخير صار صاحبو يعرف. علاش يا الجافي زدتي قلبي شغوف، واللي ناوي لزيارتو يوافي، ليس يردو الخوف، ما ظنيتك بالخير ما تكافي".
ويصف لحظة انتظاره للذي يأتي ولا يأتي، بقوله "يا مسراج الحروف، خليتي عيني على الشفك شوافة، عين الرافة مصاحب العفو. تكبت فعضاي، نارك الزلافة.. عييت نتفافى وعدني نصرفو. أمكواني كنروج كالحوت بلا ما ف معاطنو مشفو"، أي كالحوت الذي يتقلى في ماء قليل متبق في وادي ناشف.
ويزيد "بغرامك الاعضاء نشفو. ذنب العشيق واعر، ما زال دير بيك، أيا جافي خوفي عليك وافيني، وافيني وكمل المقصود. واللي جواد ياك تجود"، ليخلص إلى الاستفاسر "لله واش قلبك حجرة ولا حديد ولا زبرة (السندان)، كليت من الجفا والهجرة. خليت ليك مول الجود".
الصباح حميد الأبيض (فاس)