"أمير شعراء الملحون" وقصته الطريفة مع الأمير والسلطان
أبدع "شيوخ الكلام"، قصائد ملحونية رائعة بمعان مختلفة زخرفوها بشكل ميزها عن كل ألوان الشعر في عاميته وفصاحته، وتلاوين الغناء في إيقاعاته. وتستحق قصص تجاربهم، إبحارا وبحثا قد لا تكفي محدودية حلقاته، في محاولة نفتح أعين القارئ فيها، على حقائق مذهلة نترك إليه، اكتشافها.
"المفروق بلا اتفاق، وغرام حبيبي باقي في ضلوعي.. رشاق بالمحاور، وسط الجوف حارقة".. حربة قصيدة نظمها التهامي المدغري، "أمير شعراء الملحون"، بعد نقله إلى دار المخزن بفاس، بقرار من السلطان، لخوفه من تبعات تأثير عمق علاقته وصداقته بابنه الأمير محمد بن عبد الرحمان.
ورغم عيشه "معززا مكرما"، فقد نظم هذه القصيدة لإثارة انتباه الأمير الذي رحل بعيدا عنه ودون علمه، ولم يطق فراقه، بعد أن رافقه في أحلى أيامه بقصر مراكش.
ولم يحل الوضع دون سماع الأمير تلك القصيدة، ليرد عليها بأخرى عنونها ب"ماف الفرقة صلاح"، ويجمع الله شملهما من جديد.
خاف السلطان على ابنه من تأثير هذا الأديب والفقيه وشاعر العربية المكلف بتدريس الأطفال بالقصر، بشكل قد لا يؤهله لأن يصبح ملك المستقبل، بعد أن زرع فيه بذرة نظم قصائد الملحون. توسيع الهوة بين الطرفين، حاول الحاجب، ترسيخها قبل انكشاف الأمر، وتضاعف عناية الملك بالمدغري.
يفصل محمد السوسي، وهو رئيس فرقة فاسية للملحون وذو دراية كبيرة بهذا الفن، في هذه القصة المثيرة، موردا محاورة طريفة بين المدغري والسلطان الذي وصفه ب"ملذذ المعاصي" خاصة في قصائده العديدة في حرف "الحاء" التي عرفت بدقة معانيها، ودفعت البعض إلى تلقيبه ب"محيح الحاء".
"يا مولاي، إن الذي مريضا وطال به المرض، يصيح "أح"، والذي يتلذذ يقول أيضا "أح"".. ذاك جواب حاول من خلاله المدغري تبرير انتفاء مسببات ذاك اللقب، مفضلا تلقيبه ب"ملذذ المعاني"، لكن ذلك لم يحل دون رحيله لفاس، لإبعاده عن الأمير الذي "كان لا يفارقه، إلى حد أصبح يكتب في الملحون".
رغم البعد، لم يخالف "أمير شعراء الملحون"، عادة زيارة قصر مراكش، للاطمئنان على حال السلطان والأمير، لكن الحاجب ولشدة غيرته من مكانته، "كان يتحاشى لقائه بهما، بداعي انشغالهما. وكذلك حين استفسارهما، عن مجيئه، إلى أن طالت مدة عدم لقائهم" يقول محمد السوسي.
فطن التهامي المدغري، لحيلة "الحاجب"، قبل أن يقرر كتابة قصيدة "النحلة" (شامة) التي غنتها مجموعة ناس الغيوان"، منطلقا من النحلة وكيفية تشكيل العسل، للحديث عن علاقته بالأمير ووالده. بطريقة ذكية، أرسلها إلى القصر، عن طريق شخص مسموح له بدخوله، ويفهم السلطان معناها.
"قالت النحلة: ما عندي وزير طماع يداري (يجامل) أهل المال ولو كانوا فجارا.. واللي موسوم بالغدر، لو كان أباه يرميه للقفارة.. الملك طيب والرعية مضرورة.. ولا وزير ليه يبلغ الخبار، ويجيب الشربة (يوفي الأمانة) لمن تضر".. رسالة بعبارات مشفرة من المدغري للملك، حول حقيقة ما نسجه الحاجب.
وأكثر من ذلك، واصل تأكيدا للحقائق، بتلميحات وعبارات تحمل مغزى كبيرا، بقوله "يلا خان الوزير بعدات المزارة.. غني يا شامة الضريفة وزها يا ولفي ودندني.. قطفي من الأزهار يا ترياق علاش كل ضر يا بنت الملك، ليك همة وتمارة.. ربي يحجبهم من مكايد من هو قشاش عايش على الخدعة، نكار".
اكتشف السلطان من خلال تلك الكلمات، تورط الحاجب في قطع الوصال مع هذا الشاعر، الذي أولاه اهتماما كبيرا فيما بعد، إلى درجة إبقائه بجانبه وحرص الملك على رعايته وإغلاق القبة بنفسه، خوفا عليه، لكن مكيدة دبرت له، في حريق استعملت "الحلفة" لإيقاد فتيل نار امتد إلى الأعمدة.
مات المدغري خنقا بالدخان المنبعث من ذاك الحريق، وترك وصية التمس فيها دفنه في مدخل مسجد سيدي ونافع في باب السمارين بفاس، "باش يخلفوا عليه الناس، لعل وعسى أن يكون بينهم رجل صالح وذو بركة، يغفر الله له في وجهه" يقول السوسي، موضحا شدة إيمان الشاعر وتواضعه.
حقيقة دفن المدغري بفاس، أكدها أيضا عبد الرحيم العمراني مقدم الطريقة الحمدوشية، التي أشرف بنفسه على محو لوحة تؤرخ لذلك، في ذلك الموقع، مشيرا إلى أن قبره لا يوجد في الصحراء، فيما تحدث السوسي عن تحريف بسيط شمل بعض عبارات قصيدة "النحلة"، خرجت عن إيقاع القافية.
الصباح حميد الأبيض (فاس)