السلاطين ينظمون جلسات يتبارى فيها شعراء وزجالون
أبدع “شيوخ الكلام”، قصائد ملحونية رائعة بمعان مختلفة زخرفوها بشكل ميزها عن كل ألوان الشعر في عاميته وفصاحته، وتلاوين الغناء في إيقاعاته. وتستحق قصص تجاربهم، إبحارا وبحثا قد لا تكفي محدودية حلقاته، في محاولة نفتح أعين القارئ فيها، على حقائق مذهلة نترك إليه، اكتشافها.
إن كان "ديوان العرب" منتجعا روحيا لشعر عربي قح، ففن الملحون هو "ديوان المغاربة". وحجية ذلك، شموله مواضيع دينية واجتماعية واهتمامه بالغزل والخمريات والربيعيات والتصوف والفكاهة والتربية والمواعظ والترجمات وضمه كما من "الحرارز" المتنوعة باختلاف وتباين أنواعها ومواضيعها وقصائدها.
هذا التنوع والتميز يفسره محمد السوسي رئيس جوق جمعية التهامي المدغري للملحون بفاس، باهتمام قصيدة هذا الفن، بكل ما هو غرامي واجتماعي وديني، وحتى "الشحط" و"المقراع" أو الهجو، بل إن غالبية شعراء الملحون عرفوا بقدسيتهم وحكمتهم وتبصرهم وامتلاكهم موهبة خارقة.
ويورد قصصا مختلفة أعقبت مشاحنات وشجالات بين بعضهم، وتحقق نبوءات قصائدهم، مسهبا في الحديث عن خصالهم ونقاء وصفاء سيرتهم وما تملكوه من قدرات ومواهب وقدرة فائقة على إبلاغ الخطاب إلى المخاطب، ولو في عبارات مشفرة لا يفهمها إلا الضالعون في فك رموز الكلمات والمعاني.
كل من يجالس محمد السوسي ويستمع إليه وهو يسرد لوحات وصفحات مشرقة من تاريخ هذا الفن ورجالاته، يحس كما لو كان في إبحار وغوص روحي في عمق فن يستحق الاهتمام بالبحث في عروقه والاستماع إلى نبض دم حبه، في أفئدة شيوخ غير راضين عن ما يعيشه "ديوان المغاربة".
اعتاد السلاطين في كل عيد ومناسبة دينية، على إقامة مجالس للشعراء في المشور السعيد، ينظم كل واحد منهم، فيها قصائد شعرية مرتجلة وعفوية باللغة العربية. وفي ذات عيد حلوا بالقصر، وتلا كل منهم قصيدته، طمعا في الرضى ومكافأة مالية أو عينية، توازي قيمة المجهود المبذول لنظم الكلام.
في ذاك اليوم كان بينهم رجل غير مألوف المشاهدة. لقد انتعل "صندالة" (نعالة) والتف في "بونداف" الجلبات الصوفية القصيرة الصالحة للصيف والشتاء، واضعا رزة (عمامة) فوق رأسه.. لا أحد منهم ارتاح لمظهره ولسر حضوره بينهم، خاصة بعد إلقائه قصيدة عامية اللهجة، في حق الملك.
أكرم السلطان، ذاك الرجل الغريب، ومكنه من هبة مالية وعينية، بشكل وازى مجموع ما حصل عليه بقية شعراء العربية الحاضرين صباح العيد بقصره العامر، من مكافآت.. ما أثار استفسارهم وهم الذين اجتهدوا في نظم قصائد في المديد والبحرين الطويل والقصير، وإبادع القوافي وحسن وزنها.
"أنتم أعزاء على قلبي.. لكن لغة بلادي، أعز من كل شيء. هذا مدحني بلغتي".. ذاك رد السلطان على استفسار الشعراء حول سر مجازاة هذا الشاعر الوافد من البادية الذي تلا شعر الملحون في حضرة الملك، بنفس قيمة ما جازاهم جميعا. تلك قصة رواها السوسي لتأكيد احترام هذا الفن.
كان الشاعر التهامي المدغري، ضمن الحضور. ومن حينها أصبح لا يكتب إلا شعر الملحون، إلى حد تلقيبه ب"أمير شعراء الملحون"، قبل أن ينسج علاقة وطيدة مع ابن السلطان المولى محمد بن عبد الرحمان، ويزرع فيه حب هذا الشعر المغربي بامتياز، المولوع به نسبة مهمة من المغاربة.
"يا طه، يا طيب الذكر، يا بوطيب، يا هلال من كل قطر ملموح.. يا نعمة في الأرض سايحة. السعد اللي راك، بالماحي بلماحو".. حربة قصيدة استدل بها السوسي، لكشف جانب مهم من تجربة التهامي المدغري الذي سمى جمعيته باسمه تكريما له، ونظم قصائد الغزل والخمريات والطبيعة.
وقال إنه أحسن ناظم كتب قصائد في أعراس الأمراء، وكان يصفها كما تقام وبطريقة بارعة، فيما برع زملاؤه في تأثيث خزانة مهمة من أشعار شيوخ الملحون، شكلت ملجأ هواة هذا الفن، ممن ترنموا بألحانه الغذبة ونغماته الأصيلة، في البيت والطبيعة، لما تزهر ربيعا وتحلو النزهة و"النزاهة".
ويشكل هذا التراث الفني الأصيل، واحدة من صفحات هوية ورصيد وذاكرة فاس العتيقة التي تختزل 12 قرنا من تاريخ المغرب، بعد أن كان ملجأ الحرفي و”الصنايعي” للتنفيس عن الذات والاستراحة من العمل. لذلك لم يكن عبثا إحداث مهرجان لهذا الفن، بهذه المدينة لربط الحاضر بالماضي واحتضان الشعراء المبدعين و”الخزانة” الحفظة والمنشدين البارعين والباحثين المحمصين والجمهور الولوع.
صباح حميد الأبيض (فاس)