"كل طويل خاوي إلا النخلة والمغراوي"
أبدع “شيوخ الكلام”، قصائد ملحونية رائعة بمعان مختلفة زخرفوها بشكل ميزها عن كل ألوان الشعر في عاميته وفصاحته، وتلاوين الغناء في إيقاعاته. وتستحق قصص تجاربهم، إبحارا وبحثا قد لا تكفي محدودية حلقاته، في محاولة نفتح أعين القارئ فيها، على حقائق مذهلة نترك إليه، اكتشافها.
«كل طويل خاوي، إلا النخلة والمغراوي».. عبارة طالما تداولها أهل «ديوان المغاربة» والمولعون بهذا الفن، فيما بينهم للبرهنة على القيمة العلمية لعبد العزيز المغراوي قاضي قضاة فاس وأحد علماء القرويين، وشاعر الملحون الذي عايش عهد الدولة السعدية، ونظم قصائد رثاء في المنصور الذهبي.
ما يثبت ذلك في نظر الفنان محمد السوسي، هو دفنه بتافيلالت في قبر هو الأطول من نوعه، وفوقه نخلة عند رأسه، لكن الطول في حالته، "ليست في الجوف أو الجسد"، رغم أنه كان طويل القامة وقوي البنية، بل في قيمته في العلم والولاية، في تناسق مثالي مع نخلة مليئة بالثمور والمستقبل.
قصة وفاة ودفن وجنازة هذا العالم التي "لا تتصور"، فيها الكثير من الإثارة والألم والحسرة. وهو الذي قطن مدينة فاس العالمة، وارتفعت "وحشته" لأهله وأحبابه في مغراوة بمنطقة تافيلالت، ليقرر يوما، السفر لزيارتهم في عقر ديارهم، في رحلة طويلة وشاقة مشيا على الأقدام، انتهت بوفاته.
لم يرد الرجل الذي وصل المنطقة ليلا موازاة مع موسم التمور، إزعاج شقيقه بدق باب منزله، مفضلا تسلق جدرانه عبر نخلة "بوزكري"، والتسلل إلى داخله ومفاجأته بقدومه بعد أسابيع من الغياب. لكن اختياره، لم يكن في محله بعد أن انتبه الأخ، لحركته ورماه بالرصاص من بندقية لاعتقاده أنه لصا.وإن كان المغراوي أول من كتب قصيدة "المولد النبوي" و"وفاة الرسول" و"الأربعين حديثا نووية"، فله يرجح الفضل، في تسمية حومة بقلب المدينة العتيقة لفاس، باسم "زقاق البغل"، بعد قصة مثيرة مع أحد خصومه ممن لم يرتاحوا لبروزه وتألقه، كما حكاها محمد السوسي لقراء جريدة "الصباح".
ولأنه كان أسود البشرة و"بحرا من العلم" واحتضان حلقته لأكبر عدد من المريدين، فقد تسبب له ذلك، في مشاكل مع علماء فاس وزملائه في جامع القرويين، إلى حد تفكير أحدهم في تعجيزه والتخلص منه، باختلاق حكاية "وفاة البغل"، وتسخير "الخادم" للتبليغ عن ذلك ودعوته للحضور.
بسذاجة تعامل عبد العزيز المغراوي، مع الخبر، بعد حبك قصة موت البغل في "الروا" (الحضيرة)، وحضور "الخادم"، وقول زميله بلزوم نقله إلى المقبرة، من قبل "فيلالي أسود"، ما استجاب إليه. لكن المفاجأة كانت كبيرة، باكتشاف موت حقيقي للبغل، اعتبارا ل"هذه كرامة الأولياء" يقول السوسي.
عملية جر البغل، كانت تزلزل وتزعزع توازن كل منزل قريب من "الروا"، بشكل يهددها بالانهيار، ويشكل خطرا على سكان الحومة، الذين استنجدوا بطلبة "المسيد"، للخروج في مسيرة يتوسلون فيها إلى المغراوي للتوقف عن الجر، حفاظا على منازلهم. ولأجل ذلك، سميت تلك الحومة ب"زقاق البغل".
تلك قصة من حكايات عديدة رواها السوسي عن شاعر الملحون المذكور، الذي نسج علاقات خاصة مع سكان وحرفيي فاس العتيقة، زادت تمتينا بحرصه على ترجمة كتب وتحويلها لشعر الملحون، لتقريبها من الجمهور، وأنجز قصيدتي "وفاة سيدنا موسى" و"تشقق القمر" أحد معجزات النبي.
وكان اهتمامه بالجانب الديني، مهما بإنجازه قصيدة "أهل البيت" و"التفاقم" أو صداق اللافاطمة الزهراء، إذ يعتبر ضمن شعراء مغاربة قليلون، تغنى بأشعارهم، جزائريون اهتموا بالفن الشعبي، خاصة الفنان الحاج محمد العلقة أحد شيوخ هذا الفن الجزائري القريب فنيا إلى فن الملحون المغربي.
ويوجد في سوق الحنة و"الغاسول"، مسجد صغير يقال إنه للمغراوي، كان يجتمع فيه يوم سابع عيد المولد، رفقة شيوخ وشعراء ومنشدي الملحون، لتلاوة قصائد ملحونية دون عزف، إلى درجة أن الموقع كان يمتلئ عن آخره، فيما يتابع البعض تلك الحلقات، من فوق الأشجار وسطوح المنازل.
ويقول السوسي إن أمداح المغراوي كانت تستقطب الصغار والكبار والنساء والرجال، وتمر على إيقاع الزغاريد و"التعشاق"، في عادة يشير إلى أنها ما زالت قائمة إلى يومنا، كما كان يقوم بها رجالات الملحون تبركا بالنبي، خاصة أحمد الغرابلي ومحمد بن ريسون والعيساوي الفلوس والغالي الدمناتي.
الصباح حميد الأبيض (فاس)