الشيخ العمراني نظم قصيدة في شيخة ملحون استخفت به
أبدع “شيوخ الكلام”، قصائد ملحونية رائعة بمعان مختلفة زخرفوها بشكل ميزها عن كل ألوان الشعر في عاميته وفصاحته، وتلاوين الغناء في إيقاعاته. وتستحق قصص تجاربهم، إبحارا وبحثا قد لا تكفي محدودية حلقاته، في محاولة نفتح أعين القارئ فيها، على حقائق مذهلة نترك إليه، اكتشافها.
"يا اللي زينك فاق الشمس والقمر والبدر ف الحجاب. صلتي بحروف عجاب، صيغ بجوابي، عالجيني بالزورة يا الريم حجوبة".. عبارات استهل بها الشيخ محمد بنعلي العمراني، كلامه مع محجوبة الشيخة المشهورة بمراكش، حين إبدائها عدم الرضى، في لقائهما الأول بعد تعامل شعري سابق.
لم يكن يتوقع هذا "الولي"، من حجوبة واحدة من شيخات الملحون المشتهرة بمدينة "سبعة رجال" على غرار شهرة زميلتها الحاجة بريكة بفاس، أن تعامله باستخفاف بعد قضائه 7 أيام مسافة الطريق لتلبية دعوتها إلى إكرامه وضيافته، بعد أن سمعت وغنت العديد من قصائده، دون أن تلتقيه مسبقا.
من عينيها لامس عدم الارتياح واستخفافها به وبهندامه وهو لابس الجلباب والرزة، فنظم فيها قصيدة «حجوبة» التي دعاها فيها إلى سماع باقي قصائده، قبل الحكم عليه، إذ قال في وسطها:»نبغيك تسمعي ل»مراسي بجوج» و»القاضي للباب» و»الورشان الخباب» محمل كتابي، والسوالف بجوج».
ودعاها إلى سماع «الشمعة ضوات مركوبة. ونبغيك تسمعي الحجام الأولي والتالي»، موضحا «فسباب ما عاتبهم عتاب دون غتابي ولا يجهلوا قولي إلا عقول مقلوبة. ونبغيك تسمعي حراز الأخطاب ميتم الأجواد ودر الفريد في التذهاب يحير الصبي وقت ما يذكر. صيب الجحود مرهوبة».
تلك الكلمات كانت سريعة النفوذ إلى قلب وعقل هذه الشيخة التي لم يسبق لها أن شاهدت هذا الشيخ، فأنكرت استخفافها به، معتذرة له عما قد يكون أسيء فهمه، فكان رده، «لولاك ما تحكيت حتى ندير هذ القصيدة»، قبل أن تطلب منه تلك القصائد لسماعها وغنائها ويتصالحا.
لكل قصيدة واردة في «محجوبة»، حكاية خاصة عاشها محمد بنعلي العمراني الذي قطن فاس، وذات يوم أراد زيارة أهله بتافيلالت، بعد رسائل إليهم لم يتوصل بجواب عنها، ضمنها قصيدته «الورشان» التي جاء فيها «الصحراء يا ورشان تغدالي، هدي سلامنا كان وصلت للأشراف فكدهم في الغياب».
جاءت «الورشان» قبل «المراسم بجوج»، لما فوجئ لانهيار منزل عائلته بتافيلالت وغيابهم عنه، حين حلوله بها، إذ نظم «المرسم الأول» التي يخاطب فيها جدران المنزل المنهار بقوله في حربتها: «جيتك يا رسم الباهيات، صبتك خالي مهجور وسكانك جابوني نزورهم، لله فين سارو وعطيني الخبر».
ويقول في قسم آخر من القصيدة ذاتها «لله فيدني يا مرسم باخبارهم وشمن بلاد ليها راحو. سكنو أوطانها وبطاحو. أنا عليك نشكي وانت تبكي في كل حالكي (الليل) ماليك ونيس غير أنا ولا طيورك الملغومة والنسور الساكنين سهولك ووعارو وعطيني الخبار».
ويضيف متوسلا إلى الجدران، بلغة دارجة لا يحتاج فهمها إلى جهد، «غابو أهل الهوا وخلاوك. شفايت العدا خلاوك وفي حالة العشيق لغاوك»، قبل أن يزيد تعمقا في توسلاتها في «المرسم الثاني» أو الكبير الذي أنجزه ليلا، بعد أن أوقد شمعة ناجاها في الحربة بقوله «أنا والمرسم يا حمام ثالثنا ف البكا انت. المرسم يبكي على الشمعة وانت تبكي على الانثى وأنا على الغزال».
أما قصيدته حول القاضي، فأبرز فيها كيفية تفضيل بعض القضاة الحسم في نزاع فتيات مع عشاقهن، ليستفرد بهن، ما يثير قلق الحبيب الواضح في حربة القصيدة «أقاضي ناس الغرام، ليك دعيت الميلاف (الفتاة)، حكم يا قاضي بالطريق (الحق) بين المعشوق وعاشقو».
يشبه الفنان محمد السوسي، قصتي «السوالف بجوج»، بتلك حول الدمليج أو الخلخال، لما فيها من تجريب لدرجة وفاء العاشق لعشيقته، بعد أن تقطع جزء من سالفها وتأمنه عليه، فيضيع منه ويتيه في البحث عنه إلى أن يجده لدى الفقيه، لتصفح له العشيقة، على أن ذلك مجرد اختبار له.
وكذلك الأمر في معاناته التي يختصرها في قصيدة «الشمعة»، التي يناجيها سائلا إياها عن همومها فتفصح له عن أي «الشعيل» واحد من سلسلة معاناة تبدأ بالتذويب في الطنجرة، إلا أنه وجد شبها كبيرا في معاناتهما، لخصها هذا الشيخ المبدع في قصيدته التي مكن «محجوبة» منها.
الصباح حميد الأبيض (فاس)