قصيدة الغرابلي أعادت زوجة إلى زوجها
أبدع “شيوخ الكلام”، قصائد ملحونية رائعة بمعان مختلفة زخرفوها بشكل ميزها عن كل ألوان الشعر في عاميته وفصاحته، وتلاوين الغناء في إيقاعاته. وتستحق قصص تجاربهم، إبحارا وبحثا قد لا تكفي محدودية حلقاته، في محاولة نفتح أعين القارئ فيها، على حقائق مذهلة نترك إليه، اكتشافها.
استفحلت المشاحنات بين أحمد الغرابلي والمدني التركماني، فيما تدخل زملاء لهما، ونظموا قصائد بالواسطة، قبل أن يتحاكما عند الفقيه الوزير بوعشرين، بحضور الأشياخ وعلماء الدين. ورغم ذلك بقي بين الشاعرين، خصام شديد، إلى أن ذهب الغرابلي إلى الشرق، للحج.
وهو في مصر نظم أحمد الغرابلي الذي ندم حين عودته إلى المغرب على الخصومة مع زميله، (نظم) قصيدة في أهل البيت، تقول حربتها: «طالب ليكم ضيف الله، سارخونا (عتقونا) يا اهل الحسان. من اللي قصدكم حاشا يخون يا اهل البيت العدناني الأشراف الحسنين».
تبادل الشاعران، الزيارة بعد جلسة صلح بمراكش. ومن أطرف ما حكاه السوسي عن ذلك، ما وقع بعد حلول الثاني بمنزل الغرابلي بفاس العتيقة، منذ الليلة الأولى للزيارة، لما طالبه بإحضار عدلين وكتابة وصية يبرئ فيها مضيفه، من أي مسؤولية، في حالة وفاته بمنزله. وكأنه كان يعلم بذلك.
كتبت الوصية ووقعها القاضي، وقضى الضيف، عدة أيام بمنزل مضيفه، إلا أنه توفي بشكل مفاجئ ودون سابق مرض، ليقيم له الغرابلي، جنازة كبيرة قبل دفنه بمقبرة «لقبب» بباب الفتوح، التي يقال إن الأخيار والأشراف والأعيان، يدفنون فيها، للاعتقاد بخلوها من الفئران والجردان.
ورغم المشاحنات الشعرية، فالعلاقات الإنسانية بين شعراء ومبدعي الملحون، كانت كبيرة في سموها وابتعادها عن الشوائب، تماما كما علاقتهم بالقائمين على دواليب الدولة حينها، إذ عمد الكثير منهم إلى مدح السلاطين والملوك وأهل الأمر والنهي في البلاد.
ويذكر فنان الملحون محمد السوسي، للبرهنة على مدح بعضهم الأولياء، اسم الحاج إدريس بنعلي السناني، وهو واحد من ثمانية أشخاص يحملون اسما متقاربا وبدعوا في هذا الفن، مشيرا إلى أن المعني بالذكر يتحدر من دوار الخنش ببني مالك في قبيلة المالكيين بالغرب المغربي.
«سيدنا مولانا إدريس الأكبر، إمام الأولياء، غيتنا يا ابن عبد الله».. مقطع من قصيدة نظمها بنعلي في مدح إدريس الأكبر دفين مولاي إدريس زرهون، فيما نظم عدة قصائد في مدح المولى إدريس الأزهر دفين فاس، بينها «يا الوالي مولاي إدريس، يا حفيظ المصطفى طه، دخيل جدك رسول الله».
وإضافة لقصيدة «الإدريسية الكبيرة»، نظم هذا الشاعر الذي كان فقيها وعيساوي الطريقة وأديبا وله كتب باللغة العربية في الخزانة الملكية، قصائد متعددة في مدح الأوياء بمن فيهم سيدي علي بوغالب دفين باب الفتوح، وأحمد البرنوصي دفين جبل لمطة قبالة فاس.
«فرحوا كلكم بخلوق الشفيع، يا أمة المشرف طه».. مقطع من حربة قصيدة «خلق الرسول في الذكر العيساوي»، الكاشفة لميول بنعلي الذي كان له فران بحومة الصفارين. وهي الميول التي لم يخف فيها اهتمامه بالأولياء ومدحهم خاصة شرفاء أهل وزان بمن فيهم مولاي عبد الله الشريف.
قبالة درب «سبع لويات» بفاس العتيقة، استقر هذا الشاعر الذي قال عنه محمد السوسي، «لما تقرأ قصائده تجدها عربية مدرجة، لكن شعره في الملحون، رقيق ورفيع. وهو الذي يتكلم بالعلم وحلاوة وطراوة وجمال»، موردا حكاية إكرامه من زوج، أعاد إليه زوجته، بعد هجران طال كثيرا.
كان لإدريس بن عبد الهادي، الشريف العلوي ذو الثروة والمال وصاحب رياضات بفاس العتيقة ما زال بعضها قائما، زوجة اسمها «فضيلة» يحبها إلى حد الجنون. شاركته العيش في قصر بزنقة فواح بدرب اللمطي، قبل أن ترحل إلى مراكش لزيارة أحبابها في دار المخزن، مرفوقة بالعبيد والخدم.
لم تكن رسائله المبعوثة مع «الحمارة»، تجد من أجوبة غير حرف «لام»، يخط في كل جواب منها، إلى أن قصد بنعلي الذي نظم فيها قصيدة «فضيلة» القائلة في حربتها «كولي لغزالي التايهة. روفي، روفي لاش دلجفا، عطفي ع الخليل، مالك على الأرسام غافلة، يا مشموم البنات. الغزال فضيلة».
وتضيف «نار جار الفقد، واقدة. بلضاها (النار) في صميم مهجتي ما ليها تحويل، برياح التيهان شاعلة ما تطفيها بحور ولا أمطار هطيلة. تركتني في الهيب حرها الساهي فاهي عادم الصبر».. وهي المعاني التي فهمها السلطان حين قراءته القصيدة، ليأمر برجوع «فضيلة» إلى زوجها.
الصباح حميد الأبيض (فاس)