مشاحنات ونزاعات بين شيوخ الملحون
أبدع “شيوخ الكلام”، قصائد ملحونية رائعة بمعان مختلفة زخرفوها بشكل ميزها عن كل ألوان الشعر في عاميته وفصاحته، وتلاوين الغناء في إيقاعاته. وتستحق قصص تجاربهم، إبحارا وبحثا قد لا تكفي محدودية حلقاته، في محاولة نفتح أعين القارئ فيها، على حقائق مذهلة نترك إليه، اكتشافها.
يحكي فنان الملحون محمد السوسي، عن قصة طريفة لبنسليمان أصغر شيوخ هذا الفن، مع شيخه محمد بن علي العمراني، لما كان الناس يتناوشون حول علاقتهما غير المتكافئة سنيا، إذ أنكر الأول شيخه وحاول تعويضه بالحاج امحمد النجار شيخ الأشياخ بفاس، التي وفد عليها من مراكش.
وأوضح ميوله في قصيدته "التوبة" التي سمى فيها شيخه الجديد، باسمه بقوله "ما خفى شيخي نجاري، لبيب ديوان"، مواصلا "قولو لمن اجحد، ما ينبت غصنو وراق، مالو ضاع خطية جاحد الشعراء"، قبل أن يرد عليه العمراني في قصيدة أسماه "القاموس"، عاتبه فيها بقوله:
"ما يشوف جديد اللي ما قرا حراب البالي، وبالتواسل حتى يقبل خالقي توسالي، وبالتحبحيب يلا يتم غرسو ف مرة".. ومن حينها انطلق مسلسل إبراز سيوف اللوم العتاب وكشف الأخطاء والعيوب، على إيقاع "سيف الشاعر ف لسانو"، في مشاحنات شعرية، كانت قمة "الفراجة".
ويحكى أن بن علي لما عاد من مقبرة "لقبب" بعد دفن بنسليمان، قصد مباشرة وهو غيضان، "حجاما تربطه به صداقة، مطالبا إياه بنزع ضرس معافى، ملحا في ذلك رغم تنبيه "الحجام"، قبل أن يستجيب له بنزعه، ليتعهد بعدم نظم الشعر، لأن "المتوفى كان كيحكني، باش تخرج كلماتي".
هذه المشاحنات لم تقتصر على الشاعرين المذكورين، بل كان بطلها الحاج أحمد الغرابلي الشيخ الفحل الذي يتكنى ب"الحبر"، وهو من شيوخ فاس. وهو الذي كانت له نزاعات ومشاحنات مع شعراء وقته، بفعل عناده الشعري، خاصة مع الحاج إدريس بنعلي.
وهجا الغرابلي، بنعلي، في الحراز "أمينا بودلال"، التي يقول في حربتها: "حرزها على موركاحي (داري)، لكن بحيالي ديتها، وظفرت بالأفراح من قاسو الهوا، ما يرتاح"، بل قال عنه "ادرس عظامو، إدريس، يبقى طول أيامو هريس, تابع سيرة إدريس بالنميمة والغتبة والشتيم".
ولم يكن بنعلي ليترك الفرصة دون الرد عليه، في قصيدة "قصر العنان" التي يقول فيها: "يا اللي غراتو نفسو وطولو لسانو وبغا يكون شيخ بقوة الغنان، هدي أرض السلطان (فاس) حتى شيطان ما تشيطن فيها ومشى سليم من مكانو. إما تجيه في الحال أو ف الأبدان".
ووفق إفادة السوسي دائما، فالغرابلي كانت له مشاحنة أيضا مع محمد بن ريسون، حين هجاه في 4 قصائد فيها حرف «الجيم»، كل واحدة منها تحتوي على 10 أقسام، ومنها «البوغاز» و»الغطاس» و»الرماية» و»المهراز» أو المدفع، كقصائد «تحقق كلامها ونبوءاتها، فيها بعد».
وحجة ذلك أن الغرابلي كان لا يستقر على حال، إلا لوقت قصير لينهض من جديد للسير والجولان، دون أن يقوم له مقام، كما تنبأ له بن ريسون، في قصيدة «التطويفة»، فيما كان الثاني قاطن في دكانه في حومة عبد الرحمان المليلي، لخوفه من الخروج، واعتقاد بوجود بحر يحاصره.
تلك الحقائق قالها السوسي، مبرزا أن تلميذه الحاج عبد القادر الزكيري أحسن منشد للملحون، هو من كان يتولى العناية به وخدمته داخل موقع استقراره، فيما اعتبر مشاحنة الغرابلي مع الشيخ المدني التركماني القادم من مراكش، الأشهر في تاريخ المشاحنات بين شعراء الملحون.
يحكى أن الغرابلي صادف قبيل الفجر، شخصا في حالة سكر شديد، وهو يتوسل إلى الله، ليغفر له، أمام أعين شخص آخر عاتبه على ذكر اسم الله وهو على تلك الحالة، لينطلق مسلسل العتاب بينهم حول إمكانية الغفران والمغفرة من الله الذي «كيشوف اللي ف قلبو، ولا ينظر إلى صورنا». ذاك المشهد حرك في الغرابلي، ملكة الإبداع بعد توجهه إلى منزله، حيث نظم قصيدة جاء في حربتها: «يا النايم خلي العباد كل واحد ف حالو. والشهادة بالله والرسول تكفي مولاها. قدر الله وكتب القلم كل وعد بميجالو (أجله). ف سطور اللوح المحفوظ، كيف أراد من نشاها».
تلك الحربة ختمها بقوله «رب غني عنا وعلى أفعالنا، جل جلالو قادر يجاوز على العباد كلها، بعد خطاها»، قبل تسرب خبر القصيدة، إلى المدني التركماتي، الذي رد عليه في قصيدة «الداعي» الوارد في حربتها «الداعي بالعرف اصغى لأهل العلم في مقالو، الشهادة من غير أعمال ليس تكفي مولاها».
الصباح حميد الأبيض