كان البحر أمامي في عمقه يأمرني بالعبور، كي أدخل تفاصيله وأقتحم أمواجه العاتية، لكني لم أكن أرغب في مواجهته رغم أن دعواه لي كانت لا تنتهي وكنت عن دعواه شاردا هائما خائفا، فقد كنت أعرف مسبقا شكل هزيمتي، لكن السكوت الخافت السحري كان يغري بالمغامرة والتحدي، يدفعني كي أدخل عرسه الدفين لعلي أحظى بموت شريف أدفع به لعنة هذا الزمان الأسود، خلعت معطفي الصوفي في حركة سريعة ، ورميت حذائي القديم بكل قوتي نحو الفضاء الفاضح، ثم جريت كالأبله ألعن سجن الخوف، كانت خطواتي في صراع مع الموج، حين بدأت أشق حدوده...
لا أبالي بكل الأصوات المنبعثة، كانت هزيجا خانقا مملا يرسم ألوان معارك خيالية تافهة، المسافة أمامي مازالت تدعوني، تغريني بالاستمرار.. تأمرني أحيانا بعدم التوقفـ، ، بالسير نحو حتف لا يدرك أحد شكله، هكذا أوشكت على الموت، كانت رائحته مثل الياسمين، لونه ليس كالألوان، غريب ، أسود قاتم، بياض ناصع، أحمر براق، فما أجمل أن تموت كما تشاء، وأن تختار اللحظة التي تموت فيها، وبالشكل الذي ترضاه، أعرف جيدا أن هذا الزمان لم يترك لنا حق الاختيار، حتى حقنا في الذهاب، في الغياب، وفي الموت، حين يدفعك إلى الشارع العريض كي تتشرد، وتمتصك لعنة الفراغ والبطالة، وتلهو بك وسائل الإعلام والأحزاب الصفراء.
كم مرة فكرت في أمر انتحاري، كنت أراه المخرج الوحيد من جحيم هذا العالم البائس، فقد قال لي بعض الأصدقاء وهم يرون تلك الحيرة وهي تكبر يوما بعد يوم في قلبي:
- علاش ما تحرق؟ فهو أيضا انتحار، كنت أضحك فأخبرهم بأني لا أريد انتحارا يعقبه سجن وألف سؤال، ووراءه إعلانات وإشهارات، أريد انتحارا باردا ومنسيا داخل ذاته.. وديعا في وداعه.. رطبا شيقا في لقائه....
كان الانتحار الذي أريده هو شكل الحياة الحقيقي النابع من إرادة حرة بعيدة عن كل تزوير أو قيد.
لا زال البحر أمامي والمسافة لا زالت أبعد مما ظننت، لا أدري كيف توقفت أو متى تسلل الخوف إلى قلبي في لحظة زئبقية، لا أدري كيف تمت هذه الخيانة، تسلل الخوف في لحظة توحد فيها كل شيء، توحد الموت و الحياة، توحد الرضا والسخط، توحدت كل المتناقضات، فالتفتت ورائي، كانت المسافة التي قطعتها تشعرني بالضعف، وكأن المسافات تمتص بعضها، أو تدغم بعضها في بعض، أحسست وقتها بجبني وقلة حيليتي، فتوقفت وأخذت أبحث عن معطفي و حذائي و في نيتي العودة من حيث بدأت.
كتبت هذا الفصل/ الوجه بتصرف
إلى اللقاء في الفصل/الوجه الثاني