أما خليل حاوي من لبنان فقد أبدع عدداً من قصائده الشهيرة المنتمية إلى هذا النمط مثل «قيامة إليعازر» و«رحلة السندباد الثامنة». ويعد أدونيس من أكثر شعراء الشعر الملحمي شهرة وهو الذي قدم الرؤية النظرية لهذا النمط في كتابه «زمن الشعر»، ومن قصائده «تحولات الصقر» و«إسماعيل» و«أحوال ثمود» وسواها الكثير. ولا يقل محمود درويش شهرة عن أدونيس في كتابة هذا النمط من القصيدة إذ تمتزج الغنائية لديه بما سبق ذكره من سمات سابقة. ومعظم مجموعاته التالية لمجموعة «أحبك أو لا أحبك» حافلة بهذا النوع من القصائد. ويعد الشاعر محمد عمران واحداً من أبرز من كتبوا هذا الشعر الملحمي في سورية، ومن أهم أعماله «مراثي بني هلال» وديوانه «كتاب الملاجة» وقصيدته «شاهين» التي تحكي قصة أحد الفلاحين المتمردين على الإقطاع وعلى الاستعمار الفرنسي معاً.
الشعر الغنائي أو الوجداني: يدخل ضمن الشعر الغنائي poésie lyrique معظم ما أثر عن الشعراء العرب القدامى والمعاصرين، لأن بواعثه تتصل بوجدان الشاعر، وهو المحرض الرئيس لعملية الإبداع الشعري. وإذا كانت حركة الإحياء وأعلامها في مختلف الأقطار العربية تنتمي إلى الاتباعية (الكلاسيكية)، فإن كثيرين من رواد الإحياء حاولوا التجديد بعد الاطلاع على الشعر الغربي فكانت هناك اتباعية جديدة تختلط بنفحات إبداعية (رومانسية)، حتى إن هذه النفحات لتتغلب على الجوانب الاتباعية.
وقد بدأ الشعراء تطوير الشعر الغنائي العربي وتجديده منذ محمود سامي البارودي - كما تقدم - لكن جهودهم في ذلك اتجهت إلى النواحي الفنية فكانوا يولون اهتماماً كبيراً للصياغة القديمة في معالجة الموضوعات الجديدة مثل القضايا القومية، والاجتماعية، والتأملية. ومن أبرز شعراء الإحياء وأكثرهم شهرة أحمد شوقي، وحافظ إبراهيم الذي اشتهر بأشعاره الرثائية وبأنه «شاعرالشعب» لمنافسته أحمد شوقي على شهرته، ولارتباط شوقي بالقصر الملكي مقابل ارتباط حافظ بالشعب وقضاياه، وكلاهما من القطر المصري.
وفي ليبية اشتهر من شعراء الإحياء سليمان الباروني وإبراهيم الأسطة عمر. وفي تونس برز اسم محمود بيرم التونسي، كما برز في الجزائر اسم ابن باديس ومحمد العيد خليفة ومفدي زكريا وغيرهم. أما في المغرب فتبرز أسماء مصطفى المعداوي ومحمد الحبيب الفرقاني وغيرهما. وفي السودان برز اسم الشاعر التيجاني بشير. وقد تميزت قصائد هؤلاء الشعراء على اختلاف أقطارهم، بالتزامها الشكل القديم للقصيدة، وبكونها صرخات احتجاج على الاستعمار الإيطالي والفرنسي والإنكليزي، وصرخات احتجاج على واقع الحياة المعيشية للشعب وما يعانيه من ظلم وقسوة ومرارة في ظل سيطرة المستعمرين وأعوانهم في الداخل.
وفي العراق يبرز اسم الشاعر عبد الغفار الأخرس بصفته أهم الشعراء الإحيائيين هناك. أما في السعودية فيبرز اسم محمد بن عبد الله العثيمين، وفي الكويت اسم الشاعر فهد العسكر، وفي شمال اليمن أسماء: محمد محمود الزبيري، وإبراهيم الحضراني، وأحمد الشامي، ويناظرهم في الجنوب اليمني محمد سعيد جرادة.
ومن أهم شعراء البحرين الشاعر إبراهيم العريض الذي امتزج عنده الإحياء بتجديد يحتفي كثيراً بالنفحات الرومانسية.
ولعل أكثر المجددين شهرة في إطار القصيدة الكلاسيكية على امتداد الوطن العربي، خليل مطران، وبشارة الخوري (الأخطل الصغير) من لبنان وعمر أبو ريشة ومحمد سليمان الأحمد (بدوي الجبل) ونديم محمد من سورية، وعلي محمود طه ومحمود حسن إسماعيل، وأسماء أخرى سترد لاحقاً، من مصر، وأبو القاسم الشابي من تونس، إضافة إلى كثير من الشعراء المهجريين, ويقع هذا التجديد في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى حتى ابتداء الخمسينات.
وكان التجديد عموماً يتم بمبادرة ذاتية، لكن بعض الشعراء أخذوا يتكاتفون ويؤلفون التجمعات الأدبية للإسهام في دفع حركة الشعر العربي وتطويره. ومن هذه التجمعات أربعة:
1- مدرسة الديوان التي قامت في مصر عام 1921 على أيدي عباس محمود العقاد، وإبراهيم عبد القادر المازني، وعبد الرحمن شكري. وهؤلاء تأثروا بالشعر الإنكليزي وخاصة بمجموعة «الكنز الذهبي» التي تضم بعض قصائد الشعر الغنائي منذ عصر شكسبير حتى نهاية القرن التاسع عشر. وقد انفصل شكري عن زميليه لخلاف نشب بينهم. وبقي الأولان اللذان أعربا في كتاب «الديوان» عن ضرورة تطوير الشعر العربي وتجديده. وامتاز مذهبهما - كما قالا - بأنه إنساني مصري عربي، وإنه ثمرة لقاح القرائح الإنسانية عامة. وقد فصل العقاد أسس هذا التجديد فأراد للشاعر أن يعبر بصدق عن مزاجه وشخصيته ونظرته إلى الحياة وتفسيره لها، وأن تكون القصيدة مترابطة عضوياً «كما يكمل التمثال بأعضائه، والصورة بأجزائها، واللحن الموسيقي بأنغامه، بحيث لو اختلف الوضع أو تغيرت النسبة أخل ذلك بوحدة الصنعة وأفسدها». وقال أيضاً: «القصيدة الشعرية كالجسم الحي يقوم كل قسم منها مقام جهاز من أجهزته» وعلى الشاعر أن «يكتنه حقائق الحياة ويلتزمها في غير شطط ولا إحالة وأن يغوص على جوهرها» وأن «تؤلف الصورة البيانية لنقل الأثر النفسي للمشبه به من وجدان الشاعر إلى وجدان القارئ، لا أن تقف عند حدود الحواس الخارجية». وقد طبق العقاد هذه المبادئ علىشعر شوقي ونقده نقداً لاذعاً، واتهمه بالإحالة - وهي المبالغة لدرجة إفساد المعنى - ومخالفة الحقائق والولوع بالعرض دون الجوهر. واضطلع المازني بنقد حافظ إبراهيم ووسم شعره بأنه «سياسي أو صحفي» إذ هو شعر مناسبات يومية طارئة، وأنه بعيد عن الصدق.
وانطلاقاً من هذه الأسس حاول العقاد أن يجدد في ديوانيه «هدية الكروان» المطبوع عام 1933 و«لا عابر سبيل» المطبوع عام 1937. لكن تجديده عموماً كان في محاولته مراعاة الوحدة العضوية في القصيدة إلى جانب وحدة الموضوع، وإلى حد ما: التجديد في شكل القصيدة لا في اكتناه حقائق الحياة والغوص على جوهرها - كما أراد هو لشوقي - وإن كان مفهومه للوحدة العضوية يختلف عما سيكون لاحقاً عند أصحاب الشعر الحر.
والواقع أن هذه الحركة التجديدية لم تبلغ مدى واسعاً يصح معه أن تسمى مدرسة بالمعنى الصحيح المعروف للكلمة في المدارس الغربية، كما لم يكن لها أتباع يسيرون على هديها فهي لا تعدو أن تكون تجمعاً أدبياً محدوداً انفرط عقده بعد مدة وجيزة.
2- أما التجمع الثاني فهو «الرابطة القلمية»، ففي الوقت الذي ظهر فيه «الديوان» كانت فئة من المهجريين الشماليين تنادي بتجديد الشعر. وكان هذا في كتاب «الغربال» الذي ضمنه ميخائيل نعيمة مبادئ جمعية «الرابطة القلمية» المتأسسة في نيويورك عام 1920، ومقاييسها الأدبية، وغايتها التي هي الصدق في التعبير و«بث روح نشيطة في جسم الأدب العربي، والخروج بآدابنا من دور الجمود والتقليد إلى دور الابتكار في جميل الأساليب والمعاني».
وقد تأثر أعضاء هذه الرابطة كذلك بالأدب الإنكليزي والأمريكي وخاصة بما جاء به الشاعر والت ويتمان W.Whitman وخطا هؤلاء خطوة واسعة في تجديد موضوعات الشعر وشكله في آن واحد، واستعاروا بعض الأطر من الشعر الغربي، واستعملوا الموشحات والمخمسات والشعر المرسل vers blancs والشعر المنثور. ويبدو التجديد عند نعيمة في ديوانه «همس الجفون» وعند إيليا أبو ماضي في «الأعمال الكاملة» وعند نسيب عريضة في ديوانه «الأرواح الحائرة» وعند رشيد أيوب في ديوانيه «أغاني الدرويش» و«هي الدنيا» وعند جبران في «المواكب» وغيرهم. ومع ذلك فقد ظل تجديدهم في الأوزان - إلا ما ندر - ضمن حدود العروض والبحور الخليلية المعروفة، وإن كان من الجائز أن يعد نسيب عريضة واضع أول بذرة من بذور الشعر الحر في قصيدته «النهاية». أما تجديدهم في المضمون، فإنه قد كان لهم الفضل في نظم الشعر التأملي والشعر الإنساني، وأكثروا من نظم شعر الحنين إلى الوطن لشعورهم بالغربتين: الوطنية والنفسية. وفضلاً عن ذلك تساهلوا في اللغة الشعرية، واستعملوا بعض الألفاظ العامية أحياناً، وجددوا - وخاصة أبو ماضي - في الكلمة الشعرية، وجعلوها تتسع لمضامين الحياة الاجتماعية والفكرية، وللمشاكل النفسية، من دون أن تخرج من إطار البساطة والوضوح. ونادوا كذلك بوحدة القصيدة لكنهم عنوا بها تجنب الخلخلة في أبياتها، والتعدد في أغراضها. وكتب بعضهم الشعر المنثور وهو المتحرر من قيود الأبحر العروضية كما في بعض ما ورد عند جبران في كتابه «رمل وزبد»، وإن سبقه إلى ذلك أمين الريحاني الذي يعد من شعراء المهجر الشمالي - لكنه لم ينتم إلى الرابطة القلمية - وقد بدا تجديده في أطر استعارها من الشعر الغربي وبث شعره المنثور في كتابه «الريحانيات» ثم جمعه أخوه ألبرت مستقلاً في كتاب «هتاف الأودية».
3- وأما التجمع الثالث فهو «جمعية أبولو» التي أسست عام 1932 بجهود أمين سرها أحمد زكي أبي شادي، ورُئِّس عليها أستاذه خليل مطران،وكان من أبرز أعضائها أحمد محرم وحسن كامل الصيرفي وعلي محمود طه [ر] وإبراهيم ناجي [ر] وأبو القاسم الشابي وغيرهم.
وتتلخص أهدافها في السمو بالشعر العربي، ومناصرة نهضاته الفنية، ولكن من دون الالتزام باتجاه معين، فلكل عضو الحرية في التعبير عن الموضوع الذي يريد بالأسلوب الذي يرتضيه. وقد تأثر أعضاؤها - كمن سبقهم - بالشعر الغربي: الفرنسي والإنكليزي، ولاسيما الإبداعي منه، لكنهم كانوا كذلك همزة وصل بين الشعر العربي والمذاهب الغربية من واقعية وإبداعية ورمزية، إذ يرجع الفضل إليهم في اطلاع العرب عليها في مجلتهم «أبولو». وقد تجلى تجديدهم في الشكل والمضمون كما عند أبي شادي في دواوينه «أنداء الفجر» و«أطياف الربيع» و«الشفق الباكي» التي اشتمل بعضها على الشعر المرسل. وعند إبراهيم ناجي في ديوانيه «ليالي القاهرة» و«وراء الغمام»، وعند علي محمود طه في دواوينه «الملاح التائه» و«زهر وخمر» و«ليالي الملاح التائه» و«أرواح شاردة»، وكما عند أبي القاسم الشابي في ديوانه «أغاني الحياة»، وحسن كامل الصيرفي في ديوانه «صدى ونور ودموع».
وقد توخى معظم شعراء «أبولو» جعل الصلة محكمة بين أجزاء القصيدة لتحقيق وحدة الموضوع ووحدة الفكر ووحدة المشاعرفي آن واحد، ولعل رئيسهم مطران هو أول من نبه على هذه الوحدة في مقدمة ديوانه الذي طبع عام 1890.
4- وأما التجمع الرابع فهو «العصبة الأندلسية». والواقع هو أن هذا التجمع كان واحداً من عدة تجمعات أدبية في المهجر الجنوبي، وكان أشهرها وأهمها. ففي البرازيل أسس قيصر المعلوف «رواق المعري» وفي الأرجنتين تأسست «الرابطة الأدبية» عام 1949 وتولى أعمالها جورج صيدح. أما «العصبة الأندلسية» فقد أسسها أدباء عدة عام 1933 ورأسها ميشيل المعلوف.
وأهداف هذه الجمعيات كلها متفقة على ضرورة تجديد الشعر، ولكن أدومها وأنشطها «العصبة الأندلسية» وكان من أعضائها حبيب مسعود، ورشيد سليم الخوري (الشاعر القروي) وأخوه قيصر، وشفيق المعلوف وإلياس فرحات ونصر وسمعان ورياض المعلوف. وكانت مجلتهم «العصبة» مسرحاً لنشاطهم الأدبي وأوجدوا الصلات القلمية بينهم وبين سائر أندية الأدب العربي، ولكنهم أجمعوا على ترسم أساليب الفصحى فلم يضحوا بها في سبيل التجديد - كما فعل أكثر أعضاء الرابطة القلمية - وقد وقفوا معظم شعرهم على القضايا القومية وخاصة قضية فلسطين كما في شعر القروي وفرحات وأبدعوا في الحنين إلى الوطن، إلى جانب الشعر الإنساني والتأملي، ودعا بعضهم دعوة شبه عقائدية إلى التمسك بحقوق الإنسان واحترامه بصرف النظر عن جنسه ولونه ووطنه، وكان تجديدهم في الأوزان والقوافي محدوداً. إن هذه التجمعات تعكس صورة لمستويات من التأثر بالشعر الغربي عموماً، والإبداعي منه خصوصاً، وفي مجريات تطور الشعر العربي بعد مرحلة الإحياء الأولى أو المرحلة الاتباعية، مثلما تبين بقاء هذا التأثر ضمن إطار الأشكال الفنية الشعرية المتوارثة إلا ما ندر. وبهذا المعنى سبق الحديث عن اتباعية جديدة، مطعمة بنفحات إبداعية بهذه الدرجة أو تلك اصطبغت بصبغتها حركة الشعر العربي منذ مستهل العشرينات حتى مستهل الخمسينات.
وإذا كان هذا التطور قد مهد للنقلة الواسعة التي حدثت في الشعر العربي في النصف الثاني من القرن العشرين أي لولادة الشعر الحر، فإن كثيرين من الشعراء العرب لا يزالون يكتبون القصيدة الاتباعية الجديدة، وبعضهم يكتب إلى جانبها قصيدة «الشعر الحر» أو «شعر التفعيلة». ومن أشهر هؤلاء الشعراء: عبد الله البردوني من اليمن، ونزار قباني وسليمان العيسى وحامد حسن من سورية، ونجيب جمال الدين وغسان مطر من لبنان، ويوسف الخطيب من فلسطين، ومصطفى جمال الدين من العراق، والشاعر المهجري اللبناني زكي قنصل، ومانع سعيد العتيبة من الإمارات العربية المتحدة وغيرهم كثيرون.
الشعر الحر أو شعر التفعيلة: من المؤكد أن أهم نقلة تطورية للقصيدة العربية في العصر الحديث قد حدثت مع ولادة قصيدة «الشعر الحر» أو «قصيدة التفعيلة» بحسب أكثر التسميات شيوعاً. وهاتان التسميتان يرتبط منطوقهما بالتجديد على مستوى الشكل، ولكن الواقع أن التجديد قد شمل المجموع البنائي للقصيدة العربية، شكلاً ومضموناً، ولغة، وأسلوب تصوير وترميز، ومحتوىً دلالياً، ووحدة بنيان فني إجمالي.
وهذا النمط من القصيدة العربية يعتمد صيغاً من الإيقاع إذ يختلف عدد التفعيلات بين بيت وآخر بحسب احتياج الدفقات الشعورية واللاشعورية، والانفعالية والوجدانية، وبحسب مقتضيات التعبير عن حال عاطفية داخلية أو بعض منها، وبالتالي لم يعد الشاعر ملتزماً قافية واحدة أو روياً واحداً يتكرر أو يتنوع بحسب نظام معين، بل عوض عن ذلك بالإيقاع الداخلي وبرنين القافية التي تراعى في بعض الأبيات. ومن جهة أخرى لم يعد الشاعر يقصر التصوير البياني على أشكاله القديمة التي تظهر فيها كل صورة مستقلة بذاتها ومعبرة عن فكرة محددة، بل تدرج في اعتماد نمط من التصوير المتداخل المتشابك التدفق الذي يقود إلى صوغ «مشهد حركي» - كما في التصوير السينمائي، على سبيل التقريب - يعبر عن «حال شعرية» تُستشف منها دلالات متنوعة لا أفكار ثابتة، وتترابط المشاهد المتوالية في بنيان شعري متكامل يشكل المجموع الكلي للقصيدة التي تعكس «تجربة» ذاتية للشاعر في تمثله الفكري والانفعالي والوجداني لبرهة من سياق الحياة في مكان وزمان معينين، ولكن في إطار من التضافر الدلالي بين الخاص والعام وبين الجزئي والكلي، وبين الذاتي والموضوعي، وبين الآني والمطلق.
وقد عرف هذا النمط من القصيدة، أول الأمر، باسم «الشعر الحر» ثم عرف باسم «شعر التفعيلة»، كما دعي باسم «الشعر الحديث» ولكن هذه التسمية تبدو فضفاضة ومطاطة.
ولقد اختلف الباحثون في تاريخ باكورة هذا الشعر وفي رواده، فأرجعه بعضهم إلى الموشحات التي حاول ابن خلدون أن يحصي أوزانها فلم يستطع لخروجها عن الحصر. وأرجعه بعضهم إلى العقد الثاني من القرن العشرين، وتحديداً إلى قصيدة «النهاية» لنسيب عريضة التي نظمت في الحرب العالمية الأولى متأثراً بما نجم عنها لشعبه من كوارث وضحايا. ولكن نازك الملائكة تذكر في كتابها «قضايا الشعر المعاصر» أنها هي أول من نظم بهذا الشعر قصيدتها «الكوليرا» في 27/10/1947 ونشرتها لها مجلة «العروبة» اللبنانية في بيروت يوم 1/12/1947، وقد عبرت فيها عن حزنها لضحايا مصر حين اجتاحها وباء الكوليرا، كما تذكر أن قصيدتها أسبق من قصيدة بدر شاكر السياب «هل كان حباً» الذي يعده كثير من الباحثين الرائد الأول. وقد أثبتت في كتابها المذكور أنها سبقته إلى نشر قصيدتها بنحو شهر وعشرين يوماً مع أن قصيدة السياب أرخت في ديوانه في 29/11/1946.
والواقع أنه لا يمكن التثبت من الأسبق إلى نظم هذا الشعر على وجه الدقة والتحديد، فضلاً عن أن هذا لا يقدم شيئاً ولا يؤخر. ولكن من المحقق أن هؤلاء الشعراء جميعاً، ومن جاء بعدهم، تأثروا بالشعر الغربي الحديث على نحو مباشر أو غير مباشر، وقد صرح بهذا كل من نازك والسياب، وأعادا بعض قصائدهما إلى تأثرهما بقصائد معينة لشعراء إنكليز مثل شيلي Chelley (1792-1821) وكيتس Kaets (1795-1821) وإليوت Elliot (1888-1965) وسيتويل Sitwell (1887-1964)، وتأثر آخرون بشعراء أمريكيين وخاصة إزرابوند E.Pound، وآخرون بشعراء فرنسيين مثل جاك بريفير J.Prevert.
ويجمع هؤلاء الشعراء الإنكليز والأمريكيون والفرنسيون على أن مشكلات العصر الإنسانية الحديثة تتطلب أطراً جديدة، وأوزاناً جديدة للتعبير عنها، فضلاً عن السعي إلى وحدة القصيدة لا إلى وحدة البيت، وهذا ما نادى به رواد الشعر العربي الحر. والملاحظ أن أكثر الشعراء العرب الذين نظموا هذا الشعر الجديد ونجحوا فيه هم ممن تمرسوا بنظم الشعر الخليلي، ومن أبرزهم نزار قباني، وعلي أحمد سعيد (أدونيس)، ومحمد عمران، وفايز خضور وأسماء أخرى كثيرة في سورية، وخليل حاوي وغسان مطر وإلياس لحود وغيرهم في لبنان، ومحمود درويش ومعين بسيسو وسميح القاسم وغيرهم من فلسطين، وتيسير سبول من الأردن، وعبد الوهاب البياتي وآخرون إضافة إلى السياب ونازك الملائكة في العراق، صلاح عبد الصبور وأمل دنقل، أحمد عبد المعطي حجازي وغيرهم في مصر، ومحمد الفيتوري في السودان، وقاسم حداد في البحرين، وأسماء كثيرة أخرى في مختلف أقطار الوطن العربي
وإذا كان كثير من هؤلاء الشعراء قد تأثروا بالشعر الغربي، أو تأثروا بمن تأثر به بصورة مباشرة، فإنهم جميعاً قد ألحوا على تحقيق الوحدة العضوية في القصيدة بدلاً من وحدة البيت سابقاً. وقد تجددت لديهم لغة الشعر تجدداً عميقاً واعتمد كثير منهم على تضمين قصائدهم بعض الرموز الأسطورية والدينية والفولكلورية مثل: السندباد وشهريار وأيوب وأليعازر ويهوذا وعشتروت وأوديب وسيزيف وتموز وغيرها ليستعينوا بدلالاتها الموروثة على التعبير عن مشاعرهم بعمق ورحابة. وأسرف بعضهم قليلاً أو كثيراً في التأثر ببعض المذاهب الغربية كالرمزية والسريالية فوقع في الغموض حيناً وفي الإبهام أحياناً، ولكن ذلك لا يشكل ظاهرة طاغية الأثر على حركة التجديد هذه في مجملها.
قصيدة النثر: يعتمد هذا النمط من الكتابة على التعويض عن الإيقاع الموسيقي للشعر بموسيقى الكلام الداخلية وهذا ما يجعل من نصوص هذا النمط قريبة مما كان ينادي به أصحاب الدعوة إلى «الشعر الصافي». وقد سبق ذكر ما كان لكل من جبران خليل جبران وأمين الريحاني من سبق في كتابه الشعر المنثور.
على أن «قصيدة النثر» - حسبما درجت التسمية - قد تزامنت تقريباً مع قصيدة الشعر الحر أو شعر التفعيلة. وقد كتبت نصوصها، بداية، تحت تأثير ترجمات قصائد الشعراء الغربيين، وكانت بيروت منطلق هذا النمط من الكتابة منذ الخمسينات ومن أشهر كتابها: محمد الماغوط من سورية وشوقي أبو شقرا وأنسي الحاج من لبنان ولا يزال هذا النمط يزاول بوفرة من قبل الكثيرين من الأجيال التالية لجيل الستينات في مختلف أقطار الوطن العربي.
خلاصة في أطوار الشعر العربي الحديث:
سبقت الإشارة العرضية إلى هذه الأطوار في الفقرات السابقة، ويمكن العودة إلى ذلك هنا بقسط أكبر من التوضيح والتفصيل إذ تلاحظ الأطوار التالية:
1- طور الإحياء: وذلك برجوع الشعراء إلى تقليد ما كان عليه الشعر العربي في عصوره الذهبية المزدهرة، ولاسيما العصر العباسي، وتمثلهم لأساليبه وأخيلته، واقتفاؤهم آثاره في صياغة الصور البيانية والموسيقى الجزلة واللغة الفخمة.. وكان هذا يعني التخلي السريع عن المحسنات الشكلية في عصر الانحطاط. وهكذا كان شعراء الإحياء يعارضون القصائد المشهورة في الشعر القديم حيناً وينطلقون إلى التجديد في المعاني والمضامين أحياناً أخرى ولكن ضمن أطر الأوزان الشعرية القديمة. وقد سبق ذكر أبرز شعراء الإحياء الذين يوصفون عموماً بأنهم أصحاب «المدرسة التقليدية».
2- طور التأثر بشعر الحداثة الغربية: وضح مما تقدم أن الشعراء بعد الحرب العالمية الأولى أخذوا يتأثرون بالشعر الغربي - الفرنسي والإنكليزي، الرومانسي خاصة - إما مباشرة، وإما عن طريق من تأثر به أو ترجم عنه، وقد أسفر هذا التأثر، بصورة أساسية، عن اتجاه شعري جديد يمزج بين خصائص الكلاسيكية في الصياغة الشكلية وبين كثير من خصائص الإبداعية في المضمونات وأساليب التعبير ومفردات اللغة الشعرية والنبرة الانفعالية الوجدانية.. وبوجه عام يعرف هذا الاتجاه الجديد، تمييزاً له من سابقه، باسم «الاتباعية الجديدة» وأحياناً باسم «المرحلة الإبداعية»، مع الكثير من التجاوز في هذه التسمية بالطبع. وفي هذه المرحلة ظهرت بوادر تجديد تتضمن نظم الشعر المرسل والشعر المنثور كما فعل الريحاني وجبران وأحمد زكي أبو شادي.
3- طور تجاوز الشكل القديم ومرحلة الشعر الحر: فقد تحرر الشعراء من الأوزان الخليلية القديمة واعتمدوا التفعيلة الواحدة - وأحياناً الجملة الموسيقية الشعرية الواحدة التي تتضمن تفعيلتين - أساساً لمدى طول البيت الواحد، وتخلوا عن وحدة البيت لصالح وحدة «المقطع الشعري» إذ تؤلف الصور المتشابكة «مشهداً» حركياً يعكس حالاً انفعالية عاطفية أو جزءاً من حالة تتكامل في القصيدة كلها محققة وحدتها الموضوعية، فيترابط الشكل والمضمون ترابطاً صميمياً. وقد سلف تبيان معنى «الملحمية» في النماذج المميزة لقصيدة التفعيلة هذه.
4- قصيدة النثر: تمثل هذه «القصيدة» - إن صحت تسميتها كذلك - طوراً من أطوار الشعر العربي الحديث، ولكنها تمثل اتجاهاً محدوداً على هامش الطور السابق. وهذه القصيدة تتحرر من الوزن والموسيقى كلياً وتبقي على الموسيقى الداخلية للعبارات، وتكتفي بإنشاء «الحال الشعرية» في أحسن الأحوال، مما قد يوجد في كثير من أشكال التعبير النثرية، الأمر الذي يجعل كثيرين من النقاد لا يصنفون النصوص المكتوبة بهذه الطريقة مع الشعر.
نتيجة لما تقدم يمكن القول إن الشعر العربي الحديث تأثر ببعض المذاهب الشعرية الغربية في الأطوار الثلاثة الأخيرة السابق ذكرها، ولكن لا يصح القول - على القطع - بأنه ظهرت فيه مدارس أو مذاهب أدبية كتلك التي عرفتها الآداب الغربية، وما سبق إيراده من «تسميات مدارس» إنما جاء من باب التجاوز لغرض التقريب والإيضاح. فحقيقة الأمر هي أنه توجد اتجاهات في الأدب العربي الحديث، وما ينقصها كي تسمى «مدارس» هو الأساس الفلسفي الذي تفتقده، والذي يعبر عن تغير في طبيعة النمو المجتمعي العام نمواً موازناً أو مكافئاً لما عرفه الغرب وكان منطلقاً ودافعاً لولادة مدارس الأدب عنده.
وهذا الأمر يقود من جديد إلى التذكير بالإشكالية التي سبق ذكرها في الكلام على مفهوم الحداثة في بدايات هذا البحث.
عزيزة مريدن، شكري محمد عياد.
وائل بركات. شكري الماضي. أحمد يوسف داود