الرحيل ف شون الخاطر
رحيل النفس الى نفسها ،من الخاطر الى شون الخاطر
أولا اسمحوا في البداية أن توجه بالشكر الجزيل إلى كل الفعاليات الجمعوية التي ساهمت في تنظيم هذا الحفل الزجلي ،شكرا على دعوتكم لي لمشاركتكم هذه اللمة الزجلية ،و إنه لشرف لي تواجدي في ربوع هذه المدينة العاشقة و الحالمة شعرا بتوأميه الفصيح و الزاجل.فمدينة تيفلت أعتبرها شخصيا عاصمة للزجل المغربي الحديث .لقد استطاعت هذه المدينة الصغيرة في مساحتها العمرانية بأسمائها و أعلامها الزجلية ، الراحلة دوما في شون الجسد الزجلي، أن تعطي صورة راقية تعكس بجلاء قلقها الفاعل إيجابا في الإجابة و محاولة الإجابة عن أسئلة القصيدة الزجلية ،و أن تؤسس لنفسها و لأجيالها الحالية و القادمة صرحا زجليا من قيمة راقية . و لا شك في ذلك أن المحتفى به و كما عرفته من خلال كتاباته الشعرية من فصيح و زجل ثم كتاباته النقدية تعطيه حق الإنتماء و عن جدارة لهذه النخبة التي أخذت على عاتقها بناء هذا الصرح الزجلي الشامخ،فهنيئا لكم بهذه المدينة المزجالة ، و هنيئا لمدينتكم بكم .
عندما أهداني صديقي و أخي سي احميدة بلبالي مولوده الثاني :"الرحيل ف شون الخاطر" فأول ما أثارني هو العنوان :"الرحيل ف شون الخاطر"،فإذا قرأنا الكلمة الأولى فصيحة،أي"الرَّحيلْ" ،فإن الكلمة تحيلنا على ذلك السفر الإنطوائي و اللاإرادي للنفس الراحلة إلى نفسها الباطنية "ف شون الخاطر" .أما إذا نطقناها بلغتنا الأم الدارجة :"الرْحيلْ ف شون الخاطر" ،فالكلمة تتغير لتغير المعنى الدلالي للعنوان بأكمله ،و ذلك لأن الرْحِيلْ في الدارجة يحيل على ذلك المتاع المنزلي الذي يُنقل من بيت إلى بيت آخر.فالعنوان بكلمته الأولى الفصيحة هو سفر نهائي إلى بواطن النفس الشاعرة ،أما بكلمته الدارجة،فإنه تعبير ضمني ،يعكس صورة التراكمات و الرواسب النفسية التي استولت على مساحة النفس الباطنية ،و أصبحت تؤثت المشهد الانفعالي للنفس الشاعرة .فالعنوان بوجهيه الفصيح و الدارجي يعطينا إشارة ضمنية للبعد التأملي و التداولي لهذا المتخيل الزجلي المنفتح على أكثر من قراءة .
راحل بين مسالك العقل يبحث عن صورة لهذا العقل الراحل تتجاذبه الكلمات و ما تخلفه من وقع جارح على النفس |الخاطر "رعد ينطق " "من كلام جارح" فالرحيل ف شون الخاطر هو رحيل الى نفس مجروحة ،نفس راكمت الصور الجارحة ،فالجرح في الرحيل مرتبط أساسا بالكلام الذي يلتقطه الراحل، و لعل صورة و وقع هذا الكلام على شون الخاطر أي النفس الباطنية ،هو ما يلخص الرحيل كرد فعل انفعالي للتقييم النفسي لكل الصور الملتقطة عبر هذا الرحيل .
لعل أول سؤال يصادفنا في سعينا نحو تلمس هذا الرحيل الوجداني ،هو لماذا استعمل الشاعر كلمة رحيل و لم يستعمل كلمة سفر ؟ فالرحيل يفيد التغيير الجذري للمكان، اختيار قسري، قتل هذا المكان و عدم الرجوع اليه ،اما السفر فهو انتقال طوعي من مكان الى آخر يقتضي في آخر المطاف الرجوع و العودة الى المنطلق الاول ،فالرحيل هنا في الديوان إحداث لقطيعة مع نفس غير منفعلة و معانقة دواخل النفس الفاعلة و المنفعلة ،إذن فإننا نجد أنفسنا أمام مستويين من النفس : نفس سطحية ساكنة غير منفعلة ،ترحل لترتقي الى مستواها الآخر أي تلك النفس الداخلية و الباطنية التي تتمتع بالحركة و الفعل و التفاعل و الانفعال .
عبر حاسة النظر يبتدئ الرحيل ،( الشوفة بنت النظر ـ النظر لون لبصر ـ لبصر عروش معركة ـ ف كانة الخاطر ) رحيل قسري للذات المبصرة لأناها نحو المدى الممتد ما بين التقسيم الوصفي للنفس في شتى تمظهراتها ،و ما بين الآخر الفاعل إيجابا و سلبا في تلك النفس الراحلة. يبتدئ الرحيل الذي يفيد بالضرورة تغيير الأمكنة و الوجوه بهدف تغيير ملامح النفس و كل طقوسها الانفعالية، انه رحيل من نوع آخر ،رحيل انطوائي بامتياز، من النفس في لحظة سكونها الى النفس في حركيتها و تموجاتها المنفعلة ،رحيل من النفس إلى النفس ،من الخاطر إلى شون الخاطر . نزوح و ميل تفاعلي للأنا نحو أناها المبصرة و الواعية بحركية الرحيل .
بغيت نملك خاتم حكمه
ف بحور سكاتي نغطس
نكوكط على آش تمه
إنه إبحار في حَيْرة السؤال ،و بحث فاعل في حكمته ،صمت السؤال الذي يدوي صداه في شون الخاطر
رحيل الى النفس التي تحتضن حيرتها المتسائلة ،( نتقرص و نبرىـ نقول هديت ـ يحيرني تسوالي ـ نقول هنيت )و يخاطب فيها جانبها الانفعالي الذي راكمه عبر هذا الرحيل ،أسئلة حول الأنا في علاقتها بالآخر |الكون |الانسان كجسد بتركيبة مادية و فكرية و نفسية .
إن الرحيل في شون الخاطر هو رحيل النفس الى نفسها ،مسائلة لبواطن هذه النفس و ما راكمته من أسئلة تأملية للواقع المأساوي للصورة الملتقطة عبر هذا الرحيل ،لذا فالكتابة في "الرحيل ف شون الخاطر" هي كتابة تأملية لكن بأطروحة صادمة و قلقة و مقلقة ،قلقة لرواسبها النفسية المنفعلة من جراء الصور الملتقطة عبر كل محطات هذا الرحيل ،و مقلقة في علاقتها بالمتلقي لما يتضمنه هذا الرحيل من أسئلة تستولي على مساحته الفكرية و النفسية .الكتابة في "الرحيل ف شون الخاطر" كتابة استقرائية للصورة المنفتحة على التوليد الدلالي و التداولي .إنه سفر لاإرادي للآخر المتلقي للنبش في سؤال الصورة المكتوبة ،و كذا النبش في هذه الكتابة المتسائلة ،فقراءة واحدة لديوان "الرحيل ف شون الخاطر" لا تكفي لتلمس تلك الابعاد النفسية و الفكرية التي تطرحها في علاقتها بالإنسان ،باعتباره مادة خصبة نحو التأمل و الاستقراء لكل انفعالاته و تفاعلاته كجسد بتركيبة عقلية و نفسية .الكتابة في"الرحيل ف شون الخاطر" كتابة إحساس تأملي للسؤال،سؤال الأنا الشاعرة ،سؤال الآخر الذي قد يكون فاعلا أو منفعلا في المشهد المتخيل فيه ،إنها كتابة حول ما وراء هذا السؤال .الكتابة هنا تساؤلية حول الإنسان في علاقته بإنسانيته ،في علاقته الجدلية بالآخر ككون و سلطة و دين و جنس .إن الكتابة في "الرحيل ف شون الخاطر" كتابة صادمة بصورها الملتقطة عبر الرحيل و مصدومة و حائرة في تقييمها الانفعالي لتلك الصور "دار عقلي و احتارـ غلبني عقلي ـ ب لعقل اختار ـ الراس كبة من لهوال هايم ـ النفس بغات تعفس بغات تزيت لمصدي " قلت آراسي آش تكون موسوس مشطون ".
قلت أن الكتابة في ديوان "الرحيل ف شون الخاطر" هي كتابة صادمة و ذلك لجرأة أطروحتها المتخيلة،و كذا تناولها و نبشها في التالوث الطابوي المحرم ، و المتمثل أساسا في :الدولة ـ الدين ـ الجنس .و لعل قصيدته : "الحقيقة " تعكس بجلاء ما ذهبنا إليه في طرحنا هذا ،بحيث أن السؤال الذي يمثل و يشكل جوهر القصيدة الحقيقة آش من جهة نجيها ـ نشوفها حقيقة باينة و دقيقة ) ،و الذي سيتكرر بتكرار المشاهد الانفعالية للأنا الشاعرة في رحيلها داخل المشهد السلطوي الفاعل سلبا في النسج العام لمفهوم و صورة السلطة لدى الشاعر ،و الفاعل سلبا كذلك في المتخيل المأساوي الذي تفرضه الصورة الملتقطة عبر هذا الرحيل .إنها حقيقة السلطة التي تبني صورتها من خلال علاقتها الجدلية بالآخر،علاقة الفعل و الانفعال،إنها حقيقة السلطة في بعدها الانفعالي و الإستيلابي.إنها مرآة صارخة،تعكس انفعالا دفينا لمحطات هذا الرحيل،الراحل بنا ف شون الخاطر،أي النفس الباطنية.فكلما تردد البيت في القصيدة،إلا و نجد أنفسنا أمام مشهد آخر من مشاهد "السلطة"،مشهد يعكس ضمنيا مرارة الانفعال بالصورة،أي صورة السلطة و ما خلفته من تراكمات جارحة على النفس الراحلة،أي الأنا الشاعرة و كذلك المتلقي .فالحقيقة الأولى دعوة ضمنية لتغيير صورة السلطة و حقيقتها الاستلابية ( يمكن يتيق ـ ف حوايج ما تتعاود ) و التي قد تصل الى حدود سلب الحياة.فالحقيقة الحقة بالنسبة للأنا الشاعرة،تكمن أساسا في إظهار حقيقة السلطة في صورتها السالبة للحياة ( الحقيقة اعطيوني ـ ما بقى من ولدي ـ نكفنه بيدي )، فالأنا تضع شرطا جوهريا للمصالحة مع الحقيقة كمبتغى إنساني في جوهره،و كمطلب تغييري لجوهر الصورة القاتمة الملتقطة عبر هذا الرحيل لأوجه السلطة و لحقيقتها .إنه شرط يدفع الآخر للاعتراف العلني بما خلفه من انفعال سلبي و مأساوي،لنجد بعد ذلك أنفسنا أمام بعدين مختلفين للحقيقة ،حقيقة الأنا الشاعرة ، من خلال متخيلها المأساوي للوضع الاعتباري للحقيقة كمفهوم و للحقوق كمبتغى لنمط و سلوك حياتي،ثم حقيقة السلطة في سلوكها و فعلها اللاحقوقي ( الحقيقة آش من جهة نجيها ـ نشوفها حقيقة باينة و دقيقة ـ الحقيقة افتحو الدهالز ـ سيقو لمخازن ـ قرو ب الفايتات من المحاين ). قصيدة " الحقيقة " وجه آخر من الأوجه المتعددة للأنا الراحلة ف شون خاطرنا،إنها تعكس الوجه النضالي و الحقوقي في الكتابة البلبالية،تعكس انتمائه لجيل ( البارح جيل يعافر ـ يبني بالشهادة لقناطر ـ يمد الروح ) إنه ينتمي لجيل المآسي و النكبات ( أنا جيل النكبة ـ و انت جيل لحريك )
يقول الشاعر :
بين احلام البارح
و حال اليوم
جيل مسافر
بوتليس ف ضو النهار
فالحلم خاصية انسانية ،قد تختلف من انسان لآخر سواءا من حيث نوعيتها او مدى قدرتها على ملامسة الواقع ،و الحلم دافع إيجابي نحو تمثل الشخصية و بروز معالمها ،اذن فمن هذا المنطلق ممكن ان نقول ان الحلم ضرورة ملحة لكل تقدم و صيرورة ،لهذا نجد الشاعر قد ربط الحلم ب "البارح " انه الجيل الحالم بالتغيير ، العاشق دوما لإستيهامات الكينونة الانسانية ،اما مفهوم الحال ،فانه إقصاء لهذا الحلم وصف لواقع مجرد من احلامه ،انه "بوتليس "، حيث لا مكان و لا وجود للحلم كمعطى فطري نحو الارتقاء بالنفس لمعانقة فضاءها الاستيهامي . انه شعور مشترك بمرارة المأساة ،مأساة الانتماء لجيلين مختلفين حلما و حقيقة و واقعا، و حتى المأساة كشعور دوني للنفس المحبطة اتجاه نفسها أولا ثم اتجاه الآخر يختلف في نسبة مرارته من جيل لآخر :
أنا جيل النكبة
و انت جيل لحريك .
الكتابة في الرحيل ف شون الخاطر هي كتابة وبحت عن هوية داخل هذه الكتابة، يقول الشاعر في قصيدة "التعراش" :
حلفت ما نكون خيال حد
ما يكون حد لباسي
نخسر كل شي
ونربح راسي
لقد راهن الشاعر في رحيله النفسي والفكري على رصيده الفكري و المعرفي، راهن على اللغة، لغة المحكي اليومي التي تفتح آفاقا واسعة و رحبة نحو قلق ذلك المتخيل فينا الذي يدفعنا دوما لمسائلة الصورة بكل مكوناتها و طقوسها الفعلية و الانفعالية . القراءة المتأنية للديوان تدفعنا للاعتراف بقيمة هذه الكتابة، المكانة التي تبوأتها داخل النسيج الشعري و الزجلي بالمغرب ، فعندما أقسم سي احميدة بلبالي على ألا تكون كتابته خيالا أو صورة منسوخة للكتابات الأخرى "حلفت ما نكون خيال حد" فقد كان بذلك يؤسس لنفسه مسارا متفردا في الكتابة الزجلية ، مسار يعي و يدرك قيمة الكلمة الدارجة و قدرتها على معانقة المتخيل بكل استيهاماته ، و التفرد هنا يأتي من منطلق القيمة الإبداعية المضافة للكتابة الزجلية ، فالكتابة في "الرحيل ف شون الخاطر" هي كتابة واعية بمرجعياتها المتعددة و المتباينة، هناك أولا المرجعية العلمية بحكم تكوينه العلمي (مادة الرياضيات )، ثم بمرجعية نقدية ، فرغم أنه لا يعترف بانتمائه لعالم الكتابة النقدية، إلا أننا قد لمسنا من خلال كتاباته و ردوده هنا و هناك نزعته النقدية و التشريحية لجسد القصيدة الزجلية .و يمكن أن نضيف الى ذلك محيطه الثقافي و الابداعي و المتمثل في المدينة الحالمة شعرا ،مدينة تيفلت ، بأسمائها الوازنة ،و جسدها الذي يصدح شعرا و قلقا حول الكتابة الإبداعية .