[صدر للشاعرة مليكة كباب ديوان شعر وهو الثمرة الثالثة لها بعنوان...هل سيعود في 168 صفحة عن مطبعة الأحمدية حجم 14.5/21
وهذه قراءة متواضعة في هذا الديوان..أضعها بين يد القراء لاغنائها..
الغلاف:
صورته تأكيد للعنوان آلة عود تركها عازفها تكاد تغوص في الرمل... وآثار أقدام ذلك العازف، وزورق صغير به شخص، قد يكون هو العازف نفسه.. وطائر فتح جناحيه في بداية رحلة... وتكتمل الصورة التي هي من تصميم ابن الشاعرة "سعد سؤلي"، في لحظة زمنية لها أبعاد أخرى، إنها وقت الغروب.. وشمس تودع نهارها ... ونهار في لحظة اختفاء.. إيذانا بقدوم الليل...انها لحظة حنين لاتجاه معين... فالسؤال المطروح كعنوان " هل سيعود؟" قد يشمل كل مكونات الغلاف وكل العناصر التي ابتدأت رحلتها..
المقدمة:
بحكم تكوينها العلمي والمرتبط بالأرقام والأشكال الهندسية والرياضية فقد حرصت على ترك كتابة المقدمة للدكتور "حادي عباس" وهو صيدلي، وذلك حتى يتسنى للقارئ معرفة النظرة العلمية الصرفة لما هو أدبي واقعي كان أو خيال، عباس"حيث يقول في مقدمته " سررت بإبداعها... وإلهامها الشعري وأسلوبها السلس، وكلماتها الثاقبة التي هي تعبير عن تساؤلات ومعاناة وحب للحياة بحيث تأخذ القارئ في رحلة تخيل للواقع الملموس " وأضاف كذلك أن الشاعرة "تبدع في رسم لوحات سريالية وخيالية بريشة وألوان الواقع
المقبلات:
اعتادت الشاعرة، وسنت لنفسها طريقة تختلف فيها عن جل الشعراء والشواعر، بحيث تبدأ ديوانها ببعض المقبلات وكأنها تريد أن تفتح شهية القارئ للإقبال على قصائدها، بنهم كبير، وهذا بالطبع، حصل في ديوانها الأول "من أنا؟"، والثاني " إلى متى؟" والديوان الثالث "هل سيعود؟". وهي غبارة عن شذرات سلسة:
_ إهداء
_ هدية
_ شعار
_ إحساس
_ واقع
_ آهة
_ حقيقة
_ مبدأ
وهي ثمانية مقبلات ووجبات سريعة، يلتهمها القارئ، بنهم وبسرعة يهضمها لينتقل إلى ما هو أعمق… وأغنى.. إلى محتوى الديوان… أي إلى قصائد الديوان.
أغلب الشعراء لا يبوحون بمصدر إلهامهم، لكن الشاعرة هنا تبوح به…في الصفحة 14 تقول:
بطيف حادت به السماء
كلمته… كلمني
أرشدني…
كوني بوجوده استضاء
إن كان الضلال
عن الهدى
أبعدني
جاء من يهوى سبيلي
لمن ألهمني
بحب البقاء..
بعد هذا "الملهم" انتقلت الشاعرة مباشرة وكأنها تريد أن تؤكد نفسها وأن تثبت ذاتها من خلال القصيدة التي تلت الإلهام، وهي "أنا التي".
أنا التي
همت في الدنيا (ص 20)
أجوب بحر الأحلام
تائهة…
حائرة…
توسعت مخيلتي..
تحكي…
وتحكي…
عن بدايتي..
بجهل نهايتي..
صرخت..
صرخة
حركت الأقلام (ص 21)
فجرت الكلام
…
أحكي لناسي
ما خلفه الخضوع والاستسلام
أنا التي..
تساءلت في سر الوجود
وجدت الكون أرضا
أضناها الغموض
كائنات تمشي
في طريق مسدود
..لكن رغم هذا الطريق المسدود فالشاعرة واصلت مسيرتها، وأثبتت كينونتها
واصلت مسيرتي
خطوا..
خطوا..
إلى الأمام
ومنيتي..
خيط وصل
يزكي الحب والانسجام (ص 25)
هكذا تدخل الشاعرة دوامة التساؤلات اللا منتهية في محاولة للوصول إلى عمق الأشياء وما بينها.. دخلت " من بوابة الشجن"
في بدء…
كيف كان الأصل؟
نهار..
أم بظلمة كون
كان ليل.. (ص 89)
قصائد.. فيها تمتزج ذاتية الشاعرة بما يحيط بها، وتنصهر دون أن تفقد ذاتها..
تعانق دون أن تكره، وتحب دون أن تمزح، العشق عندها نوع آخر، غير الذي نعرفه، القراءة الأولى لا تعطيك هذا الانطباع، خصوصا إدا اكتفيت بداية بقراءة عناوين القصائد .. "لمسة يد"، "هل لي أن أسألك"... "لا تغضب"..."اتركني أرحل".."سأحضنك"..."ما بعينيك".."سهرة على ضوء الشموع"..."هل سيعود"..
لكن التعمق في مكنون القصائد، يجعلك تحس أن عمق الأشياء غير ظاهرها.. قصائد ترتبط بالذات، لكنها تمتد للمجتمع، للوطن، للكون... وللإنسان بصفة عامة... تتحدث في قصائدها عن الضمير في قصيدة "مقالة بقلم الضمير" وعن الأنثى في قصيدة "ثورة العصر في رجل وامرأة" أوقصيدة " ارحميني يا دنيا"، وهي حوار بين طفلة إسمها دنيا وبين الدنيا
أنت دنيا... لا أقوى عليك
وأنا دنيا.. أستمد القوى منك
فلا تخذليني..(ص 125)
وتتحدث عن الوطن في قصائد "بالقرص عيون" أو قصيدة " لست أنا"
لست أنا
من غاب عن هذا الوطن
لست أنا...
حبه بقلبي سكن... (ص 40)
لكن يبقى تحدي الشاعرة دائما هو مواصلة الأسئلة، والبحث عن الحقيقة في مكونات المجتمع وصراع الطبقات في قصيدة "كلاب الحي".. وحقوق الإنسان...
إن كان خصمي أليفا... فلن يغضبني
وإن كان شرسا.. لست فريسة ليأكلني... (ص118)
وكم من أشخاص تعذبوا بلا ذنب
ظلم في أحداث حول الدرب
وأحداث في ظلام... (ص 120)
وفي قصيدة " لما" تقول:
لم لقمة العيش باتت باليوم مريرة
والضحكة اعتقلت...
صارت بين الشفاه عسيرة (ص 141)
لما الأخلاق بسوء الخلق انحلت
لما الأرض بالفحشاء ضاقت؟
لما الحياة بالسموم تلطخت (ص142)
السعيد في دنياه ما ارتاح
والسعيد ماله أشقاه
في الرثاء يبحث عن مداح
ولعل هذا الصراع القوي والعنيف في حد ذاته، طوق أحاسيسها الرقيقة وضاعف من أحزانها وهمومها... لذلك طلبت الرحيل..تحن لعالم آخر قد وضعت صورة مسبقة له في مخيلتها...
سأرحل عن دنياك...
فما جنيت منها غير الملل
...
غاب الأمل واضمحل...
سأرحل...(ص129)
من غير كلام.. سأرحل
بغير خصام ... سأرحل
بكل استسلام سأرحل (ص130)
لكنها لن ترحل ولن تترك كونها...وهذا التردد..قد يكون مصدره حنين كامن في عمقها بدأ ينفض عنه غبار الزمن...وبدأ دفء الأمل ينتعش في أغوارها..رويدا رويدا..نحو لحظة ادراك..محتشم..
إن وئدت غراما في سجن مفتاحه يدك
أطلق سراحه
ذوبني حنانا فإني أطمح في لطفك
أنت خلاصه..
كبلني بدفئك فيه يحلو الهوى..
ولن أهرب إلا بإذنك... (ص 150)
في آخرالديوان ختمت بقصيدة"سهرة على ضوء الشموع" ، تكون قد أعادت قراءة كل الأشياء المحيطة بها ... وتعمق عشقها، حد الذوبان .. وحد الخشوع...واكتشفت اشراقا في ذاتها نبع من تأملها الفطري للوجود..
وأنا بطبيعة خلقي أتأمل الوجود في خشوع
نصبت خيمتي تتشقشق بياضا...
تلمع في الظلام الحالك كالدروع
لبست ثوبي من بياضه فاحت البراءة
تنشد الحب بصوت رقيق ومسموع..(ص 163)
وأشرقت شمس الصباح تحيينا..
ونحن واقفين وجه القبلة..
تنعم بعطر النسيم وبيدنا وردة وشمعة (ص 166)
ولكن يبقى سؤال أخير، هل الشاعرة في هذه اللحظة من صفاء النفس، ستقف عند هذا الحد أم ستواصل تساؤلاتها...أم أنها ستعيد كتابة نفسها بأجوبة لأسئلة لم تطرح..ليصبح الجواب سؤال مستقبلي لجواب مضى في نوع من فلسفة هي عصارة تساؤلاتها اللامتناهية...
هذا ما سنعرفه من إصداراتها المقبلة.. الحاج قدور السوالي