قراءة في ديوان " حلمة صغيرة وكبرات"
من طرف االأستاذ الناقد عبد الجليل أيت الشتوي
الحمد لله الذي خلق الإنسان ، علمه البيان ، والصلاة والسلام على محمد خيرته ، وعلى أبرار عترته ، وسلم تسليما
أما بعد : فتحية الزجل .. والولوع بالكتابة .. والحلم الذي هو الخلق الإبداع ..
وشكرا للزجال المبدع ، الذي يطرز من أجلنا القصائد والدواوين ، ليتغنى بآمالنا وآلامنا .. ليبني جسورا متينة بين اللفظ الجميل الأنيق .. والمعنى
المفعم بعوالم الخيال والحال .. والجذب .. والتواجد الروحي ..
شكرا للذي يحمل هم الكلمة .. المسكون بها حتى النخاع .. وهنيئا له بمولوده الجديد ..
يتضمن الديوان ثمان وعشرين تزجيلة تستجمعها تيمات رئيسة :
- الوقوف مع الذات / الاغتراب عنها
- بروز هم الذات الخلاقة على حساب القضايا العامة
- سؤال الهوية
- الموقف من الواقع المتسم بالصدامية والرفض
- الإحساس بالهم المشترك
- الاحتفاء بالحرف والكتابة إلى حدود الاستعذاب والاستمراء
- الاعتداد بالذات .
يجمع بين هذه التيمات خيط رفيع ناظم مفاده الصدق في التعبير عن الولع والهيام بالكلمة الرفيعة والمعنى المتدفق .. وحرقة السؤال الوجودي الدائم .
ديوان " حلمة صغيرة وكبرات " يحمل إرهاصات ومقومات المتن الزجلي الحدثي .. كل قصيدة فيه تناص من آخرين .. كل قصيدة تفرخ أخرى
وتزيد ، سلك فيه صاحبه مسلك التوليف ، رهانه من ذلك وقصديته إنشاء العلاقة المتوازنة بين اللفظ والمعنى ، يقول :
ملي لكلام بمعانيه ف دواخلي ختر
تدفگات الگلة ما لگات ما تستر ( ص : 11 )
........................................................................
أنا بلمعاني قوي ف الدواخل
أنا خياط لكلام حانوتي دنيا ( ص : 12 )
.........................................................................
فقاع الكلمة نبان حمامة طوبية ( ص : 13 )
........................................................................
گلبك بلا معنى
أتاكلوا المحنى
ما يبقى صافي ( ص : 14 )
......................................................................
فراش الگعدة
جلايل لمعاني
الحال بلا قصيدة تيعاني ( ص : 16 )
الحرف وجدان
والكلمة إنسان
والقصيدة فدان ( ص : 65 )
..........................................................................
لبن الحرف
طرف من الجنة ( ص : 15 )
وهكذا ، نجده يحتفي بالمعنى ، كما يحتفي باللفظ للوصول إلى المعاني المستعذبة الرقيقة التي لا تتحقق إلا لمن كانت له الدراية الكافية بمجاهل ومضايق هذا الفن ...
الكتابة الزجلية عند " خالد بوگلة " مخاض ووجع طويل من خلاله يطرز لنا تزجيلاته الدافئة والحزينة ، يقول :
هربت م الموس
طحت ف الدم
مكتف بجراحي
يحما تنقازي
بحال الثور ( ص: 39 )
..........................................................................
يلا ما بكيتي عليا
نبكي عليك أنايا
* * * * * * * * * * * * *
نندب حرگتي بمعاني
نقصر عزايا ( ص : 57 )
.........................................................................
ناح جرحي ، نواحو براح
ما رتاح فيه وفيا ( ص: 77 )
...........................................................................
أنا بدلت صباحها
بتهراس صباحي
بمهماز جراحي ... والضر
( ص : 74)
إن الكتابة عنده مهماز للبوح والحزن والمعاناة والقلق والمكابدة ..
إن المتن الزجلي في ديوان (حلمة صغيرة وكبرات) عرف جملة من التحولات الملحوظة – في الديوانين السابقين – سواء على مستوى الوسائط الفنية أو المضامين المطروقة ...
إذ نجد الزجال ينهل مادته الإبداعية من الذاكرة الشعبية لما تختزنه من ثقافة غنية ومتنوعة .. كما ينهل من المجتمع ، بحركيته .. وجموده ..
واللافت للانتباه في هذا الديوان هو اعتماد الزجال على الصورة الشعرية المركبة والمشغلة لجميع الحواس من أجل دقة الرصد والتصوير ، وهذا يعيننا على معرفة وتمثل نوعية خيال الزجال وفاعلية تصويره سواء كان ذهنيا مجردا أو مرئيات حسية ، ولا بد من الإشارة إلى هيمنة الصور الذهنية مقارنة بالصور التشخيصية والوصفية في الديوان ، يقول :
ترگد ف شون الصغر وسواس
ظلمة تخون لعمر يرخاس ( ص : 9 )
...........................................................................
طاح ريشة ريشة
من جناوح لعمر ( ص : 74 )
............................................................................
سمعتها من شرجم سكاتي ( ص: 27 )
لبس عراك
فكز لسان مرعود ص: 67
.........................................................................
عناد مجاجي يتحرك ويزيد ص: 96
.........................................................................
لوحني شوفة محدوفة
تحت رجلين الشوف ص : 98
.......................................................................
صوف لقوافي
وافي .. ص : 13
وسر جمالية الصورة الشعرية يتجلى في ملمحين أساسيين :
1- الملمح الأول : الدهشة ، لأنها في تصوير الواقع تجعلنا وكأننا نتلقاه لأول مرة .
2- الملمح الثاني : الغموض ، الذي يجعل المقطع الشعري منفتحا على التأويل والايحالات والاحتمالات .
وبالإضافة إلى كون الصورة الشعرية تتميز بالحركية ، فإن الزجال اعتمد الجمل الفعلية الواردة في زمن الأمر ؛ لإنتاج خطاب شعري منفتح على الآخر ، يقول :
برك بعدا وهدا
فرش للگعدة
كن جميل
ساويني فلوطا نوطة
برگگ ، هبش ، نبش فذاتي
خرجني ليك جبدني
من بير سكاتي
شربني غراف ت الما ص : 18
ونلاحظ أن قصائد الديوان زاخرة بالأفانين من الصور الشعرية المؤسسة على الثنائيات الضدية وأحيانا على المشابهة ، والتي يتخللها الحوار الداخلي الذي يوجه الرؤية نحو الداخل مما يجعل القصيدة طافحة بالبوح والتصريح بما يجيش بالنفس ، يقول :
لكن ما كلمني غير كلامي
اللي حامي .. فيا
شريك كل وقتي ص : 87
إن شاعرنا المبدع يبني صوره الشعرية معتمدا على ربط المجرد بالمحسوس ، إثراء للحساسية وتعميقا للوعي ، وتوليفا بين الرمز والكائنات الحية ،
بحيث يشعرك بالحركية وتحطيم الحواجز بين الإنسان والطبيعة، بين الماديات والمعنويات، يقول:
داز خيال مهرس محني على عكاز
كية ذاتي ضربها جن الحرف وداز
لبكارة الورقة عرس
جمع السطور ف مراح القصيدة وتكحاز
لجرف سكاتو دخل ف ذاتو
بحال گنفود شاف حراز ص : 107
ولا يفوتني أن أشير إلى أن الزجال اعتمد كثيرا على الإيقاع الداخلي ؛ وذلك من خلال توظيفه لعناصر تساعد على توليد الموسيقى والإيقاع ، ومن
أهم هذه العناصر : التكرار ، حيث استعمله على مستويات عدة ، على مستوى : الحرف والكلمة والعبارة والجملة والصيغة الصرفية والصوتية
والمقطع الشعري ؛ مما يكسب القصيدة تناغما إيقاعيا وجرسا موسيقيا موحدا . وفضلا عن كون هذا العنصر يكسب القصيدة نوعا من التناغم الداخلي
فإنه كذلك يعكس الحالة النفسية للشاعر ، كما يحقق من خلاله الشاعر نوعا من التوازن الداخلي للقصيدة ..
وقبل أن أختم مداخلتي لا بد أن أشير إلى أن قصائد الديوان تتميز بمسحة غيوانية درامية تنطلق من الإنسان لتعود إليه .. قصائد تجسد بصدق رؤية
شعرية لا تخرج قيد أنملة عن رؤيا الشاعر الحديث ، برغم اختلاف تلاوينها .
وفي الختام نقول : في البداية والنهاية ، القصيدة هي من تختار كاتبها .. تتفجر في وجه قلمه راضية مرضية وتمنحه نفسها باشتهاء .. إننا لا نختار
الكتابة بقدر ما تختارنا .. ولا تلمع حروفنا إلا إذا كنا في مستوى تطلعاتها .
من طرف االأستاذ الناقد عبد الجليل أيت الشتوي
08/02/2011 في مراكش
[center]