وتمر اللحظات بسرعة، فيجد صابر نفسه وسط عالم لا يمنحك الثقة بسهولة، تحس من خلال نظرة ساكنيه أنك غريب، وأنك بعيد بما فيه الكفاية عن بلدك، رغم أن المسافة الفاصلة بين مراكش وإيمنتانوت لا تدعو لكل هذه الغرابة، فقد كان صابر لا يوحي بأي اختلاف، فملامحه قريبة من ملامح أهل هذه المدينة، فجذوره أمازيغية، لغة واحدة، وانتماء لوطن واحد، ورغم ذلك أحس بأن في الأمر شيئا غريبا.
ابتعد صابر عن كل هذه الوجوه المتسائلة، ثم جلس بالقرب من أحد بائعي الجرائد، لعله يمنح نفسه استراحة يجدد بها ثقته في الآخرين، وبعد أن تخلص من إحساسه بالغربة ، اتجه نحو محطة لسيارات الأجرة، كان يسأل الجميع عن اسم القرية التي يقصدها، وكلما سأل أحدا إلا بادره بالسؤال:
--- آش قلت، اسميت البلاصة؟
ليجد نفسه مضطرا لإعادة صياغة سؤاله من جديد، فتبدأ الابتسامات والنظرات الباردة، وكلام غير مفهوم بلغة لا يفهمها، فأحس بالغضب من ردود الناس، وكأنه يسأل عن شيء مضحك، ومن أغرب الردود التي لازال صابر يحتفظ بها في ذاكرته المليئة بالذكريات البائسة، عندما سأل أحد الجالسين :
--- الله يخليك واش عرفت فين جات للاعزيزة؟
--- للاعزيزة، علاه آش درت ليهم أولدي؟
فيضحك الجميع، ويتغامز الجالس مع الواقف، ليصرخ صابر في وجوههم، لأنه لم يعد يطيق تلك النظرات المتهكمة:
--- عيب عليكم، واش أنا من كوكب آخر؟
أحس أحد الجالسين بنوع من الذنب رغم أنه لم يشارك في هذه المهزلة، فقام من مكانه وأخذ بيد صابر ثم أبعده عن هذا الحشد من الواقفين، فصرخة صابر القوية المنفعلة، جعلت الناس يتحركون في اتجاهه لاقتناص أي خبر يتسلون به في ليلهم البارد والفارغ.
--- اسمع يا ولدي، سآخذك عند أحد الأصدقاء، فهو يعرف المنطقة كما يعرف جيبه.
أحس صابر بنوع من الاطمئنان، فأمسك بيد الرجل بقوة خوفا من ضياع هذا الأمل الوليد، ثم اقتربا من خضار ، كان هو الرجل المقصود، فحكى له صابر قصته مع أهل هذه المدينة، وكيف سخروا منه، ، ابتسم الخضار هو أيضا، ثم شرح لصابر سبب استغراب الناس، فالمنطقة التي يقصدها صابر منطقة نائية لا يذهب إليها إلا من تمت معاقبته، فقد كانت في الماضي منطقة تأديبية، وقف الخضار فجأة، ثم أمسك بيد صابر، فأشار له بأصبعه إلى أعلى التلة، مشيرا إلى شاحنة صفراء ترابط وحدها، وكأنها تنتظر فارسها المغوار، لتبدأ غارتها الألف، ثم أخبره بأنها الشاحنة الوحيدة التي تبحر إلى للاعزيزة، ورحلتها لا تتكرر إلا مرة واحدة في الأسبوع، لم يهتم صابر بكل هذه التفاصيل، المهم أنه عثر على من يأخذه حيث يريد، فجرى نحو التلة كالطفل الصغير، يشده فرح غريب، ربما رغبته في لقاء أولائك الصغار، الذين لازالوا ينتظرون وصوله، جلس صابر بالقرب من الشاحنة الصفراء في انتظار ذلك الفارس الوهم، الذي يقوم برحلتي الصيف والشتاء، فلم تمر إلا دقائق معدودة حتى ظهر رجل طويل القامة، ذو سمحة تميل إلى السمرة، يرتدي أكثر من جلباب، وينتعل نعلا أكبر من رجليه، ذكر صابر ب " الكراب" بائع الماء بساحة جامع الفناء، ما إن اقترب الرجل الصوفي – هكذا صار ينعته صابر فيما بعد – حتى قام إليه صابر ليسأله، هل هو الرجل المرغوب فيه؟ لكن ما إن حرك صابر شفتيه حتى قاطعه الرجل بالسؤال:
--- واش أنت للي غادي للاعزيزة؟