كانت كل هذه الأحداث تصر على الحضور في ذاكرة صابر، ولم يستطع أبدا نسيانها، لأنها وبكل بساطة تشكل جزء من ماضيه، من تاريخه ومعاناته، حتى أوشكت أن تصبح جزء من حاضره ومستقبله، تحركه دائما بأن يكون الأفضل، الأفضل من بين كل زملائه، وليس فقط أن يتفوق على تلك الصورة الأسطورية لابن اللافطومة، التي دأبت أمه رسمها له في كل مشاويره، لكن هذا الأمر لم يعمر طويلا، خصوصا بعد رحيل اللافطومة بسبب موت ابنها "الجدرمي" في حادثة مروعة، فعندما كان عائدا من إحدى مهماته الرسمية ، انزلقت دراجته النارية تحت شاحنة فدهسته كما تدهس الطماطم.
ظلت أمه تبكي فراقه مدة طويلة، بعدها انقطعت أخبارها، فقد قيل أنها استقرت أياما عند إحدى قريباتها بنفس المدينة، ثم غادرت إلى وجهة لا أحد يعرفها.
رحلت اللافطومة فرحلت معها المنافسات والمناورات والدوافع التي كانت تحرك للامحجوبة، كي يتحرك في داخلها التحدي المنشود، فتدفع صابرا إلى العمل والمثابرة والتفاني في الدراسة.
مات " الجدرمي" فمات معه كل الكلام الذي تعود صابر سماعه من أمه، حتى أصبح مدمنا عليه، فلم يستسغ صمت أمه وذلك الشحوب الذي صاحب وجهها منذ سماعها بموت ابن جارتها، وكأنها فقدت الرغبة في ذلك التحدي، أو أنها لم تعد بذلك المزاج الذي تعود عليه ابنها، فكل ما صارت تردده كلما أحست بنشوة النصيحة:
--- اقرأ يا ولدي مزيان، أدير علاش ترجع.
كانت كل الذكريات لا زالت عالقة بذاكرته المتوترة، من كثرة التفاصيل والأحداث القديمة والجديدة، لقد أصر صابر في هذا الصباح الجديد أن يستعد ويرتدي ما لديه من ملابس، وأن يختار من الكلام ما يليق بمعلم ومربي فاضل،هذا كله فقط لاستقبال أؤلائك الصغار، الذين ينتظرونه هناك، في مكان ما بالقرب من إيمنتانوت.
خرج صابر ثم اتجه نحو محطة المسافرين "بباب دكالة"، ليستقل الحافلة المتوجهة إلى مدينة إيمنتانوت، دخل المحطة، كانت تعج بالسماسرة والباعة المتجولين، فبدأ يسمع النداءات من كل اتجاه، هذا يريد بيع مجلة، والآخر يرغب في بيع تذكرة سفر مجهولة الملامح من كثرة العرق، وهذا يعرض عليك حمل حقيبتك، في لحظة شعر صابر بصفير لم يعتده في أذنيه، حينها اتجه إلى شباك التذاكر، ثم صعد الحافلة وهو حائر في أمر كل هؤلاء.
بعد لحظة من الانتظار، بدأت الحافلة تتحرك ببطء شديد، وكأنها تتسلل خوفا من شيء ما، لكن مجرد ما غادرت مدينة مراكش حتى زادت سرعتها وكأن السائق يعوض كل ذلك التأخير الذي تعمده من أجل ملء الحافلة عن آخرها، كانت الطريق طويلة ومملة، لكن صابر لم ينتبه إليها، كان همه الوحيد الوصول إلى غايته، فذهنه لا يستطيع أن يستوعب كل تلك الصور المتعاقبة عليه، صور تلاميذه ، صور القسم والسكن، صور الزملاء المحتملين، كان مشغولا بالتفكير في نوع الابتسامات وطريقة الكلام، حتى طريقة الغضب فكر فيها، فالصغار لا يحتملون مزيدا من الغضب.