المــطــــــب..!
يمشي الهوينى ويتمايل كقضيب الخيزران، ذلك الرجل المسن النازح من ربوع مناطقنا الجنوبية إلى العاصمة الإدارية في الأربعينيات ذو اللكنة الأمازيغية – الحسانية- والسحنة السمراء، الصلب العود رغم تجاوزه سن السبعين. فهو صديق الجميع شبابا وشيوخا أكثر من أبنائه السبعة.. حديثه متميز فهو يذكر المؤنث ويؤنث المذكر ، صريح صادق، امتهن السمسرة ( لا كالسماسرة) بعد حصوله على التقاعد من إحدى الشركات التي كان يعمل بها كمحترف في الخياطة.
ليس له محل، لكنه يمارس وهو يرتشف قهوته المؤداة من قبل زبون، أو يصحب معه كيس قهوة سريعة ويطالب النادل بإحضار كوب ماء ساخن وسكر وملعقة..الكل يتقبل طرائفه والإنصات لمغامراته..أثناء عودته من المقهى المحاذية لمقر سكناه بعدما اقتنى الخبز كعادته، اعترض سبيله شخص رفقة امرأة يدعي أنها زوجته، فسأله عن مكان " البازارات". أشار " الدالحوس" ببنانه اتجاه باب الملاح، وطلب منه أن يسأل عن السوق التحتي في اتجاه قصبة الأوداية..فجأة ابعث معهم رجل آخر ( صديق الرجل والمرأة) واستفسره: عم يسأل هذا الرجل والمرأة ؟ إني أراه يحمل كيسا ، هل يريد بيع شيء ؟.
أجابه "الدالحوس" إنه يسال عن مكان "البازارات".
سأله صديقه : هل تريد بيع شيء ؟ . رد عليه صاحبه : إيه نعم ، أريد بيع بعض البراريد التي أصحبها معي من الخارج..
قال له : أرني نموذجا ؟ أخرج الرجل برادا براقا من الكيس خطف بريقه بصر وبصيرة "الدالحوس" الذي وقف مشدوها لا يدري ما يحاك ضده.
أمسكه صديقه وبدأ يقلبه بين يديه، وينظر إلى الخاتم الذي وضع بقاعدته ، سأله عن ثمنه، فأجابه: أبيع الواحد بثمانية آلاف درهم لخصوصيته. فهو تحفة نادرة، إضافة إلى المواد التي صنع منها، لذا فبائعوا "البازارات" يتهافتون على شرائه لإدراكهم قيمته.
قدر الرجل " صديقه" ثمنا حدده في مبلغ ألفين وخمسمائة درهم، قائلا له إن قبلت المبلغ سأمده لك حالا. سحب البراد منه بقوة موهما "الدالحوس" بأن الرجل لا يريد شراءه قائلا له : هل هذا البراد ثمنه ألفين وخمسمائة درهم. إنك لا تقدر قيمة التحف الفنية النادرة.
أجابه صديقه: إنني أريد شراءه، فهاك المبلغ إن قبلته. دس يده في جيبه كأنه يريد إخراج ثمنه. فأقسم صاحبه بألا يقبله منه ، وألا تدخل نقوده جيبه، رغم تدخل المرأة بقبول الثمن المعروض. وفي الأخير قبل العرض بشرط ألا تدخل نقود صاحبه جيبه لقسمه.
همس المشتري المزعوم في أذن "الدالحوس" الذي بقي مشدوها للسيناريو المحبوك، والحوار الدائر بين اللصوص الثلاثة قائلا له : سأعطيك ورقة مائتي درهم ، وضعها في يده بعد أن أبعده قليلا عن صديقه وقال له : هذه لك حلالا طيبا. تدبر لي مبلغ ألفين وخمسمائة درهم، واشتري لي البراد، لأنه كما رأيت أقسم بألا يقبل نقودي. وسأرجع لك المبلغ المدفوع فور حصولك على البراد. اقتنع "الدالحوس" رغم نباهته وتنطعه، ومباهاته أمام أصدقائه وأصدقاء أبنائه بأنه ذكي، وأنه لا يمكن أن يغرر به. ففرحته بالورقة النقدية الزرقاء، أبعدت تلافيف خلايا دماغه عن التفكير في الشرك الذي يعد له.
توجه عند البقال المجاور لمنزله طالبا المبلغ المذكور، فأجابه بوجود مبلغ ألف درهم فقط بالصندوق..تركه وتوجه صوب منزله ، صعد الأدراج بسرعة البرق، دلف البيت وضع الخبز على الطاولة، توجه نحو الدولاب ، سحب المبلغ المطلوب وهو يعده مرة وثانية..العصابة والبراد في انتظاره. بانت طلعة "الدالحوس" وهو يلملم شيئا في وسطه تحت جلبابه..بنباهتهم الاحترافية أدركوا أن المبلغ المتفق عليه في يدهم. سأله المشتري المزعوم – بعدما ترك مسافة فاصلة بينه وبين صديقيه- هل أحضرت المبلغ ؟
أجاب "الدالحوس" بالإيجاب بعد أن هز رأسه.
طلب منه أن يسلمه بسرعة لصاحبه ويأخذ منه البراد التحفة ليسلمه إليه. وإذاك يرد له المبلغ المدفوع.
في تلك اللحظة التي بدأ "الدالحوس" يهرول في اتجاه صاحب البراد ليسلمه المبلغ، انسحب المشتري المزعوم..وغاب عن الأنظار. سلم "الدالحوس" المبلغ للرجل والمرأة مقابل براد لا يتجاوز ثمنه الحقيقي سبعون درهما، وذهب يبحث عن الذي طلبه منه لاسترداد المبلغ، لم يجده، أراد أن يرجعه لصاحبه، غاب عن الأنظار بدوره . اختفوا جميعهم. وقتها أحس "الدالحوس" المسكين بعرق بارد ينبجس من مسام جلده، وعلم بعد فوات الأوان بأنه وقع في مطب مدروس ، من قبل لصوص ذوي خبرة ومكر. فبدأ يصرخ ويستغيث..اجتمع بعض الشباب من الذين يعرفونه، تفرقوا شرقا وغربا،شمالا وجنوبا. انتشروا في كل الجهات بحثا عن اللصوص الثلاثة. كأن الأرض انشقت وابتلعتهم..لم يجد "الدالحوس" الضحية بدا من الالتجاء إلى مركز الشرطة ليبلغهم بأنه تعرض لسرقة من قبل لصوص باعوه برادا بألفين وخمسمائة درهم..وكما يقول المثل الدارج: " الطماعين تايباتو فالشماعين"
ملاحظة:
بعد هذه الواقعة، انقلبت حياة "الدالحوس" رأسا على عقب، وأثرت على نفسيته وصحته، وأصبحت علامات المرض بادية وإن كانت كامنة.بعدها بفترة قصيرة التحق "الدالحوس" بالرفيق الأعلى.