شرّع النّهار أبوابه على صباح مفعم بالغبار المتناثر فوق الأحياء الجانبية لمدينة تنام على تخوم المنجم العتيد, المتشبث برحم أرض" بني مسكين", لا تزحزحه سوى أطنان من الديناميت المنفجر كل يوم, ليجود على المدينة المجاورة بأطنان مضاعفة من الغبار بكرم حاتمي , تتكفل الرياح الحارة بإيصاله إلى فضائها .
جالسا على عتبة باب المنزل الذي يعج بالقاطنين من المستخدمين الوافدين من الجهات الثمانية, ساهم العقل شارد اللب, يقلص حجمه كلما أراد أحد القاطنين الدخول أو الخروج عبر هذا الباب الوحيد كبوابة السجن, بل أشد قسوة وقتامة منها لصغر حجمه , و لما يحجب خلفه من صنوف القهر و الظلم والغبن المكظوم.
في الطرف الأسفل من الشارع ناحية اليسار, يأخذ بغل أبيض يجر عربة رباعية العجلات, محملة بالمواد الغذائية المجلوبة لدكان من دكاكين الحي المغبر في الصعود بحمولته المضنية . يقفز سيزيف إلى الذهن يدحرج حمله نحو الأعلى, وقد استحال وجهه حجرا . تقترب العربة, أتبين وجها تشابكت فيه تجاعيد شيخوخة مرهقة و قاسية, ينهر البغل المتصبب عرقا من جراء ثقل الحمولة, وشدّة انحدار الشارع و تشققه بفعل تعدد عمليات الحفر لمد القنوات , مما ترك حُفرا عديدة و أحجارا متفرقة تعرقل المارة والقاطنين و عابري السبيل .
يقلص البغل عضلاته كلها من العنق و حتى المؤخرة والساقين الخلفيتين , للتمكن من التقدم بذالك الحمل الثقيل خلال هته الفوضى, صوت الهواء يٌمتصُ داخل رئتيه و ينفث خارجهما بصعوبة وجهد يثير الشفقة والانزعاج , والرغبة في كتمه.
انحشرت عجلتا العربة في إحدى الحفر فتوقفت, البغل يضاعف الجهد للتخلص من المأزق, وصاحب الوجه المتجعد يجدب اللجام تارة ويطلقه أخرى ليهوي على ظهر البغل بسوطه المطاطي, تسري فيه شحنة حارقة من الكتفين وحتى المؤخرة.
يتمدد صدر البغل ويتقلص بعنف من جراء الشهيق و الزفير المرهقين مع إصدار الصوت المتحشرج المزعج, والسوط يلهب الظهر, و العربة ثابتة على حالها, والثقل جاثم مكانه لا يزول ولا يخفف, ولا نوابض للعربة طبعا.
السائق يصيح ببغله و يلعنه ويهوي بسوطه على ظهره المبتل عرقا و غبارا استحالا طينا ينساب تحت الحوافر يثقلها منذ بدية الحفر يصعب حركتها. احتار البغل بين مقاومة السوط ومحاولة جر الثقل وتحمل صراخ و لعنات السائق, و صوت الشهيق والزفير يصم الآذان و يبعث الجنون في الأس. و أخيرا أخذ في الرفس والركل بجنون لا يفتر , ولازال السائق في محاولات يائسة يلهب الظهر المبلل بالعرق الممزوج بالغبار, و الطميُ تحت الأقدام و الحوافر والعجلات يشدها إلى الإسفلت, و العربة لم تبرح مكانها .
خريبكة :2011_10_26