تحريم كشف المرأة وجهها ويديها . .
لقد قرأت هذه الصفحات مرارا.. وأحببت أن اشارككم بهذا الموضوع.
يروى عن عائشة قولها إن نساء الأنصار لما نزلت سورة النور عمدن إلى حجور أو حجوز فشققنهن فاتخذنه خمرا ( 2 ) .
ويروى عن أم سلمة قالت : لما نزلت يدنين عليهن من جلابيبهنز خرج نساء الأنصار كان على رؤوسهن الغربان من الأكسية ( 3 ) . .
ويروى عن عائشة قولها : يرحم الله نساء المهاجرات الأول . لما أنزل الله ( وليضربن بخمرهن على جيوبهن ) شققن أكنف مروطهن فاختمرن بها ( 4 ) . .
* ( هامش ) *
( 1 ) البخاري كتاب فضائل الصحابة باب فضل أبو بكر . .
( 2 ) أبو داود . كتاب اللباس . ( 3 ) المرجع السابق . ( 4 ) المرجع السابق . ( * )
ص 181
ويروى عن عائشة أيضا : لا تلثم المرأة ولا تتبرقع ولا تلبس ثوبا بورس ولا زعفران ( 1 ) .
وروي أن فاطمة بنت قيس لما طلقت . أمرها الرسول أن تعتد في بيت ابن عمها ابن أم مكتوم لكونه ضرير البصر وإذا وضعت خمارها لا يراها ( 2 ) . .
وروي أن الرسول ( ص ) قال : " لا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين " ( 3 ) . .
هذه الروايات التي اعتمد عليها الفقهاء في حرمة وجه المرأة ويديها وأن جسدها بكامله عورة . . وأمام هذه الروايات لنا هذه الملاحظات :
أولا : هل النساء قبل نزول آية الحجاب كن متبرجات في المدينة ؟
ثانيا : ما هو نوع اللباس الذي كانت ترتديه نسوة المدينة آنذاك ؟
ثالثا : هل هذه الروايات تنطق بحرمة كشف وجه المرأة ويديها . . ؟
يقول الفقهاء إن النساء كن يخرجن في المدينة بالجلباب أو بلا جلباب يرى الرجل وجهها ويديها وذلك قبل نزول آية الحجاب . . فلما نزلت آية الحجاب سترت وجهها وكفيها ( 4 ) . .
وحسب هذا القول فإن التبرج الذي كان سائدا في المدينة هو كشف الوجه والكفين فقط . . لنترك الروايات تكشف لنا الحقيقة
* ( هامش ) *
( 1 ) البخاري باب ما يلبس المحرم من الثياب . . ( 2 ) مسلم كتاب الطلاق . .
( 3 ) البخاري . وانظر موطأ مالك . ( 4 ) فتاوى ابن تيمية ج 22 / 109 وما بعدها . ( * )
ص 182
يروى أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على رسول الله ( ص ) وعليها ثياب رقاق . فأعرض عنها الرسول وقال " يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم تصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا " . وأشار إلى وجهه وكفيه ( 1 ) . .
ويروى : أن النبي ( ص ) أردف الفضل بن العباس خلفه يوم النحر . فجاءت امرأة تسأل الرسول . فطفق الفضل ينظر إليها ويطيل الالتفات إليها . فجعل النبي يصرف وجهه إلى الشق الآخر ( 2 ) . .
ويروى : أن الرسول ( ص ) قال : " لا تتبع النظرة النظرة . فإنما لك الأولى وليست لك الآخرة " ( 3 ) . .
ويروى عن الرسول ( ص ) قوله : " إياكم والجلوس على الطرقات " . فقالوا : ما لنا بد . إنما هي مجالسنا نتحدث فيها . قال : " فإذا أبيتم إلا المجالس فأعطوا الطريق حقها " قالوا : وما حق الطريق ؟ قال : " غض البصر . وكف الذي ورد السلام " ( 4 ) . .
ويروى أن الرسول قال : " لعن الله الواشمات والموتشمات والمتنمصات . والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله " ( 5 ) . .
ويروى أن رسول الله ( ص ) رأى امرأة فأتى امرأته زينب وهي تمعس منيئة لها فقضى حاجته ثم خرج إلى أصحابه فقال
" إن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان فإذا أبصر أحدكم امرأة فليأت أهله . فإن ذلك يرد ما في نفسه " ( 6 ) . .
ويروى قول النبي في بيعة النساء : " إني لا أصافح النساء " ( 7 ) . .
* ( هامش ) *
( 1 ) أبو داود كتاب اللباس . . ( 2 ) مسلم . . ( 3 ) رواه أحمد والترمذي وأبو داود . . ( 4 ) مسلم . كتاب اللباس والزينة . .
( 5 ) المرجع السابق . . ( 6 ) مسلم كتاب النكاح . . ( 7 ) سنن ابن ماجة . باب بيعة النساء . . ( * )
ص 183
ويروى عن عائشة قولها : لا والله ما مست يد رسول الله ( ص ) يد امرأة قط ( 1 ) . .
ويروى عن عائشة أيضا قولها : إن هند بنت عتبة قالت : بايعني يا رسول الله ؟ قال : " لا أبايعك حتى تغيري كفيك . كأنهما كف سبع " ( 2 ) . .
وما يتضح لنا من خلال هذا الكم من الروايات أن المجتمع المدني كان يعايش المرأة سافرة الوجه ظاهرة الكفين وأن هذا هو العرف السائد الذي تعامل معه الرسول . . فإذا تبين لنا هذا فإنه يمكن القول إن آيات الحجاب نزلت لمواجهة حالة أخرى
ونمط آخر من سلوكيات النساء . ولم تنزل لتحريم الوجه والكفين . . وإذا كانت نسوة المدينة قد بالغن في التستر بعد نزول آيات الحجاب كما أشارت الروايات التي يستند إليها أنصار تحريم كشف الوجه واليدين فتلك مسألة سلوكية تعكس اهتمامهن
بأمر الله وتحوطهن في تطبيقه وليس هذا تشريعا للأمة . . وقوله تعالى : ( قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون . وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين
زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن . . ) ( 3 )
وهذا النص الصريح الذي ينهى عن غض البصر يدل دلالة صريحة على أن هناك شئ ظاهر من المرأة يستدعي جذب بصر الرجل نحوها . ألا وهو الوجه والكفين . وهو ما دفع ببعض فقهاء المذاهب الإسلامية إلى القول بأن الوجه والكفين من
المرأة ليسا بعورة فلا يجب سترهما وحملوا الروايات التي تشير إلى خلاف ذلك على الندب دون الوجوب مؤكدين أن الوجه والكفين هما المقصودان من قوله تعالى ( إلا ما ظهر منها ) ( 4 ) . .
* ( هامش ) *
( 1 ) المرجع السابق . . ( 2 ) أبو داود كتاب الترجل . ( 3 ) سورة النور آية رقم 31 . .
( 4 ) أنظر كتب الفقه . وكتاب فقه السيرة للبوطي . والحلال والحرام للقرضاوي . . ( * )
ص 184
أما أصحاب الاتجاه المتشدد الذي يلصق بالرسول التحريم فيتجه إلى أن الزينة المقصودة هنا ليست هي الوجه والكفين وإنما هي زينة المرأة الخارجة عن أصل خلقتها والتي لا يؤدي النظر إليها رؤية شئ من بدنها مثل الثياب أو الحلي .
وقد اعترف إمام التشدد والذي تتعبد بأقواله التيارات الإسلامية والإتجاه الوهابي عموما بأن الزينة في هذه الآية تنقسم إلى قسمين :
زينة ظاهرة وقد تنازع فيها السلف على قولين : قال ابن مسعود ومن وافقه هي الثياب . . وقال ابن عباس ومن وافقه هي ما في الوجه والكفين مثل الكحل والخاتم . ثم علق على هذا الكلام بقوله : وحقيقة الأمر أن الله قد جعل الزينة زينتهن زينة ظاهرة .
وزينة غير ظاهرة . وجوز لها - أي المرأة - إبداء زينتها الظاهرة لغير الزوج وذوي المحارم . وأما الباطنة فلا تبديها إلا للزوج وذوي المحارم ( 1 ) . .
ويبدو من خلال الروايات التي عرضنا لها بخصوص كشف المرأة لوجهها وكفيها أن النساء كن يتجاوزن هذا الكشف ويكشفن المزيد من جسدهن مثل الصدر والرأس والسيقان والذراعين وهذه هي صورة التبرج التي نزلت الآيات بخصوصها . .
ويبدو أيضا أن لباس المرأة في تلك الفترة لم يكن مثيرا وشاذا كما هو الحال في صورة اللباس المعاصرة . فقد كانت المرأة ترتدي الجلاب وهو لباس طويل واسع يغطي معظم جسدها . ويطلق على الجلباب أيضا اسم الملاءة ويسميه البعض الرداء ويطلق عليه العامة اسم الإزار . .
يروى أن أم سلمة زوج النبي ( ص ) قالت له حين ذكر الإزار . فالمرأة يا رسول الله ؟ قال : ترخي شبرا . قالت أم سلمة : إذا ينكشف عنها . قال : فذراعا لا تزيد عليه ( 2 ) . .
* ( هامش ) *
( 1 ) ابن تيمية . الفتاوى الكبرى ج 22 . . ( 2 ) أبو داود كتاب اللباس . . ( * )
ص 185
ويروى أن رسول الله ( ص ) أتى بقباطي . فأعطى منها قبطية لأحد أصحابه وقال له : اصدعها صدعين فاقطع أحدهما قميصا وأعط الآخر امرأتك تختمر به . فلما أدبر قال له الرسول : " وأأمر امرأتك أن تجعل تحته ثوبا لا يصفها " ( 1 ) . .
ويروى : لعن رسول الله الرجل يلبس لبس المرأة . والمرأة تلبس لبسة الرجل ( 2 ) . .
ومن الرواية الأولى تتضح لنا الحقائق التالية :
- أن أم سلمة تستشير الرسول في أن تطيل ثوبها فيجيبها بأن تطيله شبرا . .
- أن أم سلمة استدركت على الرسول أن الشبر لا يكفي لستر الساقين . .
- أن الرسول تراجع عن رأيه وقال بذراعا بدلا من الشبر . .
ومن الحقيقة الأولى يتبين لنا أن اللباس الخاص بالمرأة مسألة اختيارية وليست محددة في هيئة خاصة .
كما يتبين لنا أن الرسول لا علم له بلباس النساء وما يحقق الستر لهن وما لا يحققه وهو ما يؤكده توجيه أم سلمة له .
كما يتبين لنا أيضا بالتأمل أن كشف جزء من الساق كان عادة سائدة من قبل النساء وهو ما يوحي به قولها : إذا ينكشف عنها
من الحقيقة الثانية يتبين لنا أن مسألة ستر الساقين ليست ذات أهمية شرعا ولو كانت كذلك ما قال الرسول : " ترخي شبرا "
من الحقيقة الثالثة يتبين لنا أن تراجع الرسول يفيد عدم التشدد في مسألة اللباس ومرونته تجاه هذه المسألة . .
وإذا كانت هذه الاستنتاجات لا ترضي القوم وتخالف المألوف فهذا يضعنا بين أمرين :
إما أن نرفض الرواية . .
وإما أن نقبلها على ما فيها من مساس بشخص الرسول واتهامه بالجهل والتهاون . .
أما الرواية الثانية فتكشف لنا الحقائق التالية :
- أن الرسول أهدى واحدا من أصحابه ثوبا شفافا ( القباطي ) . .
* ( هامش ) *
( 1 ) المرجع السابق . . ( 2 ) المرجع السابق . . ( * )
ص 186
- أن هذا الثوب يصلح للرجال والنساء . .
- أن الرسول أمر الصحابي أن تختمر زوجته بهذا الثوب الشفاف شريطة أن ترتدي تحته ما لا يصف جسدها . .
وهذا كله يشير إلى مرونة الرسول ( ص ) في مسألة اللباس وقبوله مشاركة النساء للرجال في نوع اللباس . كما أنه يشير إلى حقيقة هامة وهي أن مثل هذا الثوب الشفاف كان معروفا في المدينة وترتديه النساء ولعلهن أسرفن في لباسه مما اعتبر
صورة من صور التبرج الفاضحة التي استدعت نزول آيات الحجاب وارتداء النسوة الخمر وضربها على الجيوب ( أي الصدور ) من ثياب ثقيلة لا تشف ولا تجسم . .
والرواية الثالثة تكشف لنا أن هناك حالة من التنازع في الزينة بين المرأة والرجل في محيط اللباس . فكانت النسوة يرتدين السراويل والنعال ويضعن على رؤوسهن ما يشبه عمائم الرجال . . يروى أن رسول الله ( ص ) دخل على أم سلمة وهي تختمر فقال : " ليلة لا ليتين " ( 1 ) . . أي لا تلف الخمار حول رأسها إلا مرة واحدة لا مرتين كما يفعل الرجال . .
ويروى عن عائشة أنها سألت : المرأة تلبس النعل . فقالت : لن رسول الله الرجلة من النساء ( 2 ) . .
ومثل مسألة ارتداء النساء نعال الرجال تكشف لنا أن المرأة كانت تكشف قدميها ومما سبق ذكر يمكن القول إن تلك الروايات التي استند إليها فقهاء التحريم لا تفيد بالضرورة هذا الحكم ولا تقطع به وذلك من وجوه عدة :
أولا : أن ما فعلته نساء الأنصار بنفسها بعد نزول آية الحجاب مجرد اجتهاد شخص وليس دليلا على وجوب ستر الوجه واليدين . .
* ( هامش ) *
( 1 ) أبو داود كتاب اللباس . ( 2 ) المرجع السابق . . ( * )
ص 187
ثانيا : أن نهي الرسول ( ص ) المرأة أن تتبرقع أو تلبس القفار أثناء الاحرام لا يفيد بالضرورة أن الحكم الشرعي السائد كان ستر الوجه واليدين فإنه يحتمل أن التبرقع ولبس القفاز كان عادة سائدة من قبل بعض النسوة اللاتي يبالغن في الامتثال لأحكام الشرع وكان الرسول ( ص ) ينهاهن عن ذلك أثناء الاحرام . .
ثالثا : أنه لو كان ستر الوجه واليدين حكما شرعيا لبينة الرسول وأشار إليه بما لا يوجب هذا الخلاف الواقع بين الفقهاء حول هذه المسألة . .
رابعا : أن التبرقع كان عادة سائدة في الجاهلية من قبل النساء وهي عادة كانت أكثر ما تلتزم بها الحرائر من النساء بينما الإماء ومحترفات الزنا كن متبرجات . .
خامسا : إن قصارى ما وصل إليه فقهاء التحريم حول هذه الروايات وحول آية الحجاب لا يخرج كونه مجرد الاستنتاجات واجتهادات وهي بهذا لا تلتزم أحدا إلا أتباعهم . .
سادسا : إن ما يقود إليه البحث والتأمل في نصوص الحجاب هو أن ستر الوجه واليدين حكم خاص بنساء النبي ( ص ) اللاتي أمرن بالاحتجاب عن الناس كلية وعدم الخروج من بيوتهن . ولا مانع من أن تتأسى بهن بقية النسوة لكن هذا يكون من باب الاقتداء لا من باب التطبيق لحكم شرعي خاص بهم . .
سابعا : إن رواية فاطمة بنت قيس التي أمرها الرسول ( ص ) أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم لكونه ضرير البصر غير مقبولة عقلا لكونها نصت على أنه لا يرى منها شيئا إذا وضعت خمارها . هل المقصود منها أنه لا يرى وجهها ؟ أم لا
يرى جسدها ؟ إن من العجب العجاب أن يستدل الفقهاء بمثل هذه الرواية على وجوب ستر وجه المرأة ويديها . فالرواية
لا تفيد شيئا يتعلق بالأمر . فابن أم مكتوم رجل ضرير لا يرى شيئا من الأصل ووجود فاطمة عنده من باب ستر نفسها والحصول على حرية الحركة في البيت دون حجاب لا الحصول على حريتها في كشف وجهها ويديها . .
ص 188
وهناك رواية أخرى حول هذه الحادثة تعطينا دلالة على أنها لا تصلح للاستدلال في هذا الأمر . يروى أن الرسول ( ص ) قال لفاطمة حين طلقت : " اعتدي عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك عنده " ( 1 ) . .