المساء
فقيهي الصحراوي
عندما كان الناس يتحدثون عن الصالون الأدبي لا أدري لماذا كان فكري يتجه دائما نحو الغرب، اعتقادا مني أن الغرب هو مكان ولادة هذه الصالونات. ربما لأن تكويني في البداية غرف من الفكر الفرنكوفوني أكثر مما استفاد من الثقافة العربية. والاعتقاد أن الغرب هو أب الثقافة ومنبع الحضارة فكرة رسخها في أدهاننا الاستعمار، من خلال ما تلقيناه في مدارسه، لتبرير مشروعه الاستعماري؛
وهي فكرة وعينا في ما بعد خطأها، رغم تشبث بعض من تشبعوا بالثقافة الغربية، عن غير قصد أو عن جهالة، لعدم اطلاعهم على التاريخ الأدبي العربي، ولو من باب الفضول، إن لم يكن من باب المقارنة.
لم أكن أعرف أن أول صالون أدبي رأى النور في البلاد العربية وأن صاحبته كانت سيدة، كما صار عليه التقليد من بعد، حيث إن أغلب الصالونات الأدبية كانت تؤسسها وتنشطها نسوة. ولا غرابة أن تقام صالونات أدبية، قبل وبعد الإسلام، لأن النساء كن حينئد يشاركن في الأسواق الأدبية وفي الحروب، خلافا لما تدعيه الديماغوجيا الاستعمارية من تهميش للمرأة من قِبَـل العرب والمسلمين.
تأسس أول صالون أدبي في بلاد العرب من قبل سكينة بنت الحسين، المرأة التي بقدر ما كانت شغوفة بالعبادة، كانت شغوفة بالشعر. وهذا لا يدهشنا إذا علمنا أن أمها هي الرباب بنت امرء القيس. ولم يتوقف نشاط صالونها عند الشعر، بل شمل كذلك الموسيقى والغناء. ولكن ما يثير الذهشة هو أن تجمع امرأة بين شسغفها بالتعبد والفن.. نعم، كانت سكينة ثملة بحب الله، إلى درجة أن أباها قال لأحد الخطاب أتاه طالبا الزواج من إحدى بناته: «اخترت لك فاطمة، فهي أكثر تشبها بأمي فاطمة الزهراء، وأما سكينة فغالب عليها الاستغراق مع الله، فلا تصلح لرجل»!..
فكيف عرف الغرب الصالونات الأدبية، إذن؟ لقد انتقل هذا التقليد الأدبي إلى أوربا عن طريق الأندلس، حسب مؤرخي الأدب، إذ إن أول صالون عرفته هذه الأخيرة افتتحت أبوابه على يد ولادة بنت المستكفي. ولم يكن يسمى الصالون وقتئد، وإنما «المجلس»، إذ عرفت أيام العباسيين مجالس القيان والغناء التي، حسب تخميناتنا وحسب ما كتب عن العصر العباسي، قد تكون مجالس للمتعة والغناء أكثر منها مجالس للنقاش وقراءة الأشعار.. أما تسمية «الصالون» فقد أطلقت عليه من قبل الفرنسيين، كما «تدل» على ذلك كلمة «الصالون»، سنوات قليلة قبل اندلاع الثورة الفرنسية. إلا أنه يجب الإشارة هنا إلى أن أغلب الفرنسيين سخروا من هذه الصالونات، فراجت خلال تلك الحقبة عبارة «تورية الصالونات». وهناك عبارة أخرى تذكرنا بالسخرية من الصالونات من قبل الشعب الفرنسي، وهي عبارة «موسيقى الصالونات» أو «مناقشات الصالونات». إلا أن ازدهار هذه الصالونات وإشعاعها الثقافي، في ما بعد، سيبرهن على أن الفرنسيين أخطؤوا حينها في حكمهم عليها.
أما في ما يتعلق بظهور هذه الصالونات الأدبية في العالم العربي الحديث فقد بزغت إلى الوجود في أوائل القرن العشرين في مصر وسوريا ولبنان. ومن أشهرها، صالون مي زيادة في القاهرة، الأديبة بنت الصحافي، التي أثقنت عدة لغات. وعلى غرار صالون مي زيادة، برزت على الساحة الثقافية صالونات أخرى، نذكر منها صالونات: زينب فواز، هدى الشعراوي، أماني فريد وملك خفني ناصيف، المعروفة بـ»باحثة البادية»، وماري عجمي، صاحبة مجلة العروس، والتي كان صالونها يستضيف وجوها بارزة في عالم الأدب والفن، دون أن ننسى الصالون الدي أقامته زوجة أول رئيس لسوريا زهراء العابد نهاية الثلاثينيات.
كانت الصالونات الأدبية حينها ضرورية للم شمل الشعراء والفلاسفة والمفكرين وفتح نقاش يتبادل من خلاله الحاضرون الأراء و يطلعون فيه على الإنتاجات من خلال القرآت الشعرية، لغياب الوسائل المتاحة حاليا للنشر والدعاية من وسائل للإعلام ومهراجانات وأنترنت ومواقع أدبية ومدونات إلكترونية. فكانت الصالونات إذن تعتبر مراكز إشعاع بعد المدارس والمساجد، أو لنقل نوادي ثقافية يتم فيها الاحتكاك بالشاعر أو المثقف الآخر، وكلمة «نادي» هنا تعني أن تلك الصالونات كانت مغلقة شيئا ما ولا يلجها إلا من رحم ربك، فأعطاه مالا طائلا أو حباه بثقافة تخرجه من القطيع..
اليوم، يبدو أن الحديث عن افتتاح صالون أدبي أصبح متجاوَزا، وكأن دور هذه الصالونات قد انقضى، نظرا إلى وسائل الاتصال، التي أصبحت رهن إشارة المبدعين والمثقفين، إذ أصبح من الممكن التخاطب
ليس فقط مع مثقفي الحي والمدينة، بل مخاطبة مثقفي العالم، بالضغط على زر واحد أو أزرار قليلة. ورغم ذالك، فإن هذه التواصلات، وإن كانت سريعة وعملية، فإنها تفتقر إلى شيء أساسي في التواصل، ألا وهي الحميمية، أو التواصل المباشر، أي أن تخاطب صاحبك وهو أمامك بلحمه ودمه، تراه ويراك، بدل أن تكون المخاطـَبة افترادية. إن ما يميز الصالون الأدبي عن غيره من لقاءات المهرجانات والندوات هو علاقة الحاضرين بعضهم ببعض، بعد أن تتكرر لقاءاتهم ويصبح حضورهم بمثابة حضور عرس عائلي. وربما لأجل هذا، بدأنا نرى بعض الصالونات تفتح أبوابها من حين إلى آخر في المغرب، يؤمها مثقفون مهمشون، لسبب أو إلى آخر، مثقفون صعب عليهم شق الطريق وسط ما صار يتشكل منذ الثمانينيات من لوبيات ثقافية، تحتكر كل وسائل الإعلام وتوزع الاستدعاءات للمهراجانات في ما بينها، بفضل علاقاتها المبنية على الزبونية وتبادل الخدمات..
فالصالونات التي بدأت ترى النور في المغرب ليست صالونات بالمعنى المتعارَف عليه قديما، أي أن أصحابها ينتمون إلى الطبقة الأرستقراطية، وتقتصر العضوية فيها على «النخبة».. إن الصالونات التي بدأ يقيمها بعض من شعرائنا، ونذكر بالمناسبة من بينهم الشاعر محمد الرويسي والفنانة والزجالة زينب لوليدي، مفتوحة حتى في وجه المتلقي.. هذا ما تم يوم 13 من هذا الشهر، حيث التقى في بيت الفنانة الوليدي باقة من المثقفين والأدباء، إلى جانب مجموعة من رؤساء الجمعيات الثقافية وعشاق الشعر.. دار النقاش، بادئ ذي بدء، حول دور الصالون حاليا وحول إمكانية إقامته في مقهى بدل المنزل أو في فضاء في الهواء الطلق.. لكن الحاضرين أجمعوا على أن الصالون يبقى صالونا والمقهى، بضجيجها وصخبها، تبقى مقهى، كما أن كلا من المقهى أو الحديقة قد يفقدان الصالون حميميته واسمه حتى..
وتطرق مجموعة من المثقفين للدور الذي على المثقف أن يلعبه حاليا، حيث لاحظت أغلبيتهم أنه على المثقف أن يخرج اليوم إلى الناس، لكي يعلن حضوره ويطالب بحقوقه في الاستفادة من وسائل الإعلام والمساعدات المادية التي تمنح بسخاء للأحزاب والجرائد.. أي أنه على مثقفينا اليوم أن يكونوا نضاليين أو -للابتعاد عن العبارات المشبوهة التي أصبحت مبتذلة- على المثقف أن تتوفر فيه روح المقاتلة. لكن ما اتفق عليه أغلبية الحاضرين هو أنه على الصالون أن يفتح أبوابه لمختلف الناشطين على الساحة الثقافية، من مغنين وملحنين وشعراء ورجال مسرح وسنيما وصحافيين ونقاد، ليتم تلاقح وتواصل بين جميع الأعضاء، الشيء الذي قد يتبلور عنه، ولا شك، إنتاج ما. فلقاء زجال بملحن قد يعطي أغنية. وقد ينتج فيلم أو مسرحية من تعارف بين روائي ورجل سينيما أو مسرح.. فأما وجود نقاد في الصالون فسيعطيهم فكرة على مستوى الإنتاج بعد الاستماع إلى القراءات الشعرية التي قد تلهمهم وتضيء الطريق أمام كتاباتهم النقدية. وهكذا، لو اتخذ الصالون الأدبي هذا المنحى لأصبح مركزا ليس فقط للتواصل وقراءة الأشعار، ولكنْ للإنتاج والنقد كذلك.