قراءة في رواية - رجل منسي - (1)
للقاص والأديب ( علي أحمد العبدالله )
بقلم محمد فتحي المقداد
رجل مهجوس بالذاكرة الحية المتوقدة ,التي تتذكر تفاصيل
الحدث الذي لا يزال ماثلاً أمامه , يجثم متربعاً على أحد
أرصفة الذاكرة .ولكن الرواية أظهرت أن الذاكرة أنها مثقوبة بالرقم ستة وهي الرمز للسادس من حزيران ,الذي هزم نفوس الأمة من المحيط إلى الخليج , وما دام المؤلف هو من ذلك الجيل الذي تفتحت عيناه على تلك المصيبة التي أحاقت بالأمة والوطن وفتّتْ الأرواح والنفوس .
وكان حزيران, هو الظلام الذي اكتست به الرواية ,وما أشبه تلك الظلمة بظلمة الزنزانة المنفردة, التي اقتحمت عالم الرواية بسريالية فريدة , بحيث أن القارئ للوهلة الأولى يخيل إليه أن الرواية عن معتقل بسجن وزنزانة حقيقية , ولكنها زنزانة مجازية ,عاشت بخاطر ووجدان المؤلف , حتى أوحت له جدار التفكير العميق والوقوف مع الذات للتصالح , ومحاولة تجاوز الصدمة الكبيرة , وكانت حافزاً للذاكرة الحية المختزنة لأن تسعيد كل ساحة ومنعطف وشجرة وبيت ووجه , ولكن آثار حزيران قد جعلت التصميم العميق لدى الراوي , لأن يتدرج بنا إلى حرب تشرين , والتي اعتبرها بداية تكوين الفكر العربي بأهمية الإتحاد الذي صنع معجزة النصر وكسر حاجز الوهم بتفوق الجندي الإسرائيلي ..
كما تظهر الرواية ظاهرة النزق التي تبدو جليّة واضحة في
عقليتنا نحن كعرب من خلال الإيماءات الجنسية بتضخيم
عامل الذكورة , التي نتفاخر بها , ونستخدمها في طريقة
فجة بسب وشتم من عادانا ومن اختلف معنا ..
وما بين حزيران وتشرين اكتست الحياة بالكد والتعب و
العمل الجاد , وكانت مناسبة لكي ينزاح حمل الظلام الثقيل
الذي ران على نفس الراوي من تلك الحقبة اللعينة والتي عبّر عنها بالزنزانة , إلى رحاب الحياة بسعتها وعودة لأن ينبت القمح الذي تكدس , والذي زرع الأمل من جديد بغدٍ جديد.
قراءة في رواية رجل منسي (2)
للكاتب الروائي ( علي أحمد العبدالله )
بقلم محمد فتحي المقداد
طوته السنين بعقودها الخمسة, وعاد بالذاكرة لاستعادة شريط الذكريات , وهو ما عبّر عنه بالصفحة الأولى ( كل عجوز , يكثر
كلامه , وتطول خصيتاه, ويكثر فِساه) ,وأحب الحقائق وأعيش
على إيماني بها .
والرواية كلها لن تتعدى نصف ساعة أو أكثر قليلاً لتصل إلى ساعة , وجاء الفرج ومراكب الصور الملونة ستهب , لقد جُعلت سيّد الفرح , لأنني أحب الحرية وأكره الظلام , وإن عظمتي تنهار
أمام الصمت , وتساءلت : عن نذير شؤم الأيام الستة , التي هي مصدر الظلام والبؤس , يا لبؤس هذا الرقم !! .
وهنا تكون مراجعة ووقفة مع الذات , حيث أن الإنسان الضعيف
يعيش قي داخلي بوجهه المبتذل, بأقصى عنفوان الابتذال .
عندما أصبحت عارياً أمام نفسي , لأضع يدي فوق عورتي خجلاً
, هو مخجل أن تقف عارياً , فبدأت بمداهمة ذاكرتي وتفتيشها بعنف , عما يمكن أن مخالفة صريحة في دهاليز الحياة , لتصل إلى حافة الصمت الذي مثّل أمامي , شكل القهر والظلام المخيف
لأستطيع التواصل مع نفسي , لأشعر ببعض المتعة , وهنا أكون مع ذاتي , يعني أنني لست وحيداً , مادمت قد حصلت على بعض المتعة والسعادة , وأتابع الرؤى , لتتدفق الذكرى والمتعة معاً لتقهر الظلام من حولي , وبعدها عادت وكأنني من خوفي من الصور والخيالات , لأنها إشارات ميتة من عصر حجري, وفي لحظة هبط الرعب , وقد أحزنني أنني علمت أن الإنسان يمارس
التخريب ضد الإنسان , عندما يصنع مساحات للألم , مما أقض مضجعي , بصرخة مدوية لتشق عباب الصمت الكئيب من حولي
لأن الظلام مخيم في كل مكان , بما يشبه الزنازين الحقيرة العارية
من الحياة , وخصوصاً إذا كانت هذه الزنزانة , تحمل رقم ( ستة)
لأنها تغتصب جزءً من عمري , كما اغتصب حزيران جزء من وطني , وكسر رايتي ,وهنا سر الوقفة مع الذات , وعودة إلى القرية الصامدة , وشجاعة أهلها وهم يصعدون أسطح المنازل لمراقبة الطيران الإسرائيلي والتطوع للمجهود الحربي , وذكرى نزوح الناس من القرى الأمامية المواجهة للعمليات الحربية والتي
معرضة للاحتلال , وذلك من ذكر بيت قصر حسن النازح الذي لم يمت معه النزوح .
وكلما صغر المحيط ازداد التأثير , وذكرى الشهيد فاضل رمز التضحية والصمود , والقرية ( كحيل ) حاضرة بكل تفاصيلها في
الرواية فيقول: " أرى أنني أعيش بداخلها هيكلاً أو ناسوتاً متحركاً , أما الآن فهي تعيش بداخلي وأفكر بها , بكليتي مستغرقاً
غير مهتم لقيمة الوقت الذي يقضيه متفكراً ومتشرباً بروحه الصامدة المتجذرة في أجواء القرية , المثيرة للأفكار الناجزة التي تولد في قلب الحدث , وتفرض نفسها بقوة , و تتدرج الذاكرة مروراً بحرب الاستنزاف ليصل إلى حرب تشرين 1973م , حتى يصل غلة استعادة ذاته من خلال الوصول لقمة السعادة بالسيطرة على النفس , وانسياب الأصوات والأشكال والأفكار تنساب من نوافذ وجهي بحرية كأسراب الفراش , لاستعادة دقائق التفاصيل من ذكريات وهواجس وآمال وطموحات وعادات وتقاليد القرية
وأهلها الذين تغمرهم السكينة والطمأنينة والهدوء والصدق والصراحة والبراءة وطيب المعشر .
--------------------------------
بصرى الشام 15-7-2010