Écrit par إدريس الهراس
من نشأة الزجل إلى قصيدة الملحون:
ترى الباحثة "عزيزة البغدادي" أن شعرنا العربي قد تعرض إلى أنواع من الهزات التجديدية التي نأت به عما عرفه الذوق العربي القديم، إن على مستوى الأغراض، أو على مستوى الإيقاع.
انطلاقا من عهد المرابطين والموحدين (462 – 541 – 613 هـ) هذا العهد الذي عرف نهضة موسيقية عظيمة، لمعت في سمائها أسماء ذاع صيتها في الآفاق، ولعل اسم "ابن باجة" مثبت في أعلى قائمتها. إذ أفضت جهوده في هذا المجال خاصة، "إلى خلق أجواء فنية حافلة بصنوف الإبداع، إن على مستوى النظم أو التلحين أو الغناء".
وتلبية لحاجات القوالب الموسيقية الجديدة المبتدعة، حاول الشعراء استحداث فن شعري يتناسب وهذا التجديد، فاخترعوا الموشحات بأوزان "أحفل بالغناء والتلحين، الذي كان ضروريا عند أهل الأندلس، من أوزان الشعر" فطوروها ونمقوها بدليل ما ذهب إليه ابن خلدون في سياق حديثه عن نشأة الموشحات حين قال: "وأما أهل الأندلس، فلما كثر الشعر في قطرهم، وتهذبت مناحيه وفنونه، وبلغ التنميق فيه الغاية، استحدث المتأخرون منهم فنا أسموه بالموشح، ينظمونه أسماطا أسماطا وأغصانا أغصانا ...".
ولم يكن الوشاح، حينذاك، يحترم غير الإيقاع بوجهيه؛ الموسيقي الأندلسي الذي يفرض عليه اختيار البحر الشعري الذي سيملأ اللحن ويلائمه، وكذا العروضي المنسجم مع وضع اللحن وإيقاعه.
وبعد الموشحات شاعت الأزجال في الأندلس باللغة المحلية، ويصف ابن خلدون هذا الانتقال من الموشحات إلى الأزجال قائلا: "ولما شاع فن التوشيح في الأندلس وأخذ به الجمهور لسلاسته وتنميق كلامه وترصيع أجزائه، نسجت العامة من أهل الأمصار على منواله ونظموا في طريقته بلغتهم الحضرية من غير أن يلتزموا فيها إعرابا، واستحدثوا فنا سموه بالزجل، والتزم النظم فيه على مناحيهم إلى هذا العهد"، "فاتخذه عدد جم من أهل الفن وسيلة للتعبير عن مشاعرهم ...، ووجد فيه كثير من الناس صورة حية لنفوسهم وللمجتمع الذي يحيط بهم، ... فبلغوا فيه الغاية، وأتقنوه إتقانا، وبثوا فيه حياة، وطوعوه لشتى الأغراض تطويعا".
وقد ظهر تأثر هذا الفن بالشعر المعرب ظهورا وجليا، إن من حيث شكله الخارجي، أو من حيث أخيلته، أو من حيث لغته، "فلم يكن شعرا شعبيا بالمعنى الدقيق لكلمة شعبي، لأنه كان من إنتاج طبقة على حظ غير قليل من الثقافة العربية القديمة، .... وكذلك الأمر فيما يتصل بلغته، فإنها لم تكن لغة عامية خالصة، بل كانت تزاحمها أحيانا لغة الكتابة، ولذلك كانت مفهومة أو شبه مفهومة".
ولما كانت السيادة والنفوذ المرابطيان تطالان كلا من المغرب والأندلس، كان انتقال الزجل إلى المغرب نتيجة طبيعية لتثاقف أهل العدوتين، خاصة بعد زوال الحواجز الجغرافية والسياسية والاقتصادية ، وهو ما شكل الإرهاصات الأولى لنشأة قصيدة الملحون.
والملحون فن تبوأ أولى مراتب الإبداع التراثي الأدبي الشعبي وأعلاها، ولا ضير في أن نتحدث قليلا عن التراث الأدبي الشعبي قبل نسبة فن الملحون إليه.
إن التراث الأدبي الشعبي، تراث "ينبعث من أعمال أجيال عديدة من البشرية، من ضرورات حياتها وعلاقاتها، من أفراحها وأحزانها" ، فهو يهتم بالذات فيعتني بها ويغوص إلى عمق ما هو حميمي فيها، وخاصة فيما يربط الإنسان بكينونته الممتدة في جذور الزمن، وليس المورقة في أغصان التاريخ فقط، أي في ما يدخل في نسيج النفسية الجماعية بكل تقاطعاتها الداخلية والخارجية، لأن التراث الأدبي الشعبي ما هو إلا ترجمة للروح الجماعية، إنه الحامل الأمثل والرافد الأقرب لتمثلات الجماعة وفلسفتها، ونظرتها للوجود بوجهيه الحسي والغيبـي.
والتراث الأدبي الشعبي المغربي ضروب وأنواع متعددة، يتبوأ الملحون فيها ـ كما سبق الذكر ـ أولى مراتب الإبداع، فهو "ديوان المغاربة وسجل حضارتهم، وهو ذو قيمة مزدوجة، فنية وجمالية، ثم ثقافية وحضارية".
وهو كذلك لأنه واكب الأمة المغربية، فعبر عن كل عواطفها، ووصف كل مظاهر حياتها.
وتشير المصادر إلى أن أول بواكير فن الملحون قد ظهرت في العهد الموحدي، أي في القرن السابع للهجرة، إذ تطورت عن قصيدة الزجل في إطار الانعتاق والتحرر من بحور الخليل وكذا من صرامة اللغة المعربة.
"فالملحون، إذن، كلمة أطلقت على القصيدة الزجلية بالمغرب".
ولم تكن هذه القصيدة على جانب من التعقيد، بل كانت بسيطة، إن في أسلوبها الشعري، أو في جانبها الشكلي، إذ لم يكن الزجالون ينظمون في غير "الميت" وبالأخص البحر "المثنى" منه.
ولم يعترف بقصيدة الملحون إلا بعد أن كمل نضجها، وأصبح فنانوها ومنشدوها يؤثثون البلاط السلطاني على العهد السعدي، واعتبارا من هذا العهد، أضحت هذه القصيدة ظاهرة أدبية معترفا بها وبقدرة شعرائها الذين طوروا قوالبها الشعرية، ونوعوا الموضوعات التي عالجوها، كما تطور أسلوب الغناء والإيقاع، وتغيرت الآلات الموسيقية.
الشـكـــل :
يقول" د. عباس الجراري" في هذا الجانب : وكان في أول الأمر وحسب النصوص التي وقفنا عليها يقوم على كلام يحاول أن ينتظم، لكن في غير ضبط محكم لوحدة الوزن فيه والقافية، على نحو ما تبين أبيات مولاي الشاد السابقة. وشيئا فشيئا بدأ يقترب من القصيدة العربية في مقوماتها الإيقاعية، وفق ما نجد عند معاصره عبد الله بن احساين، وهو كذلك من تافيلالت، إذ يقول:
نبدا باسم الله انظامي ياللي ابغى لوزان
لوزان خير لي أنايا من قول "كان حتى كان"
ربي الهمني نمدح جد لشراف يا لخوان
بالشعر السليس الفايز هو ايكون لي عوان
حتى انقول ما قالوا عشاق النبي افكل ازمان
وانكون افلقريض الملحون أنا المادحو حسان
مداح مادحو بلساني والشوق له من لكنان
والمادحو ابقلب اكنانو يرضاه ما عيا بلسان
وإذا كان هذا النموذج يبرز مدى انتقال الملحون من شكل " كان حتى كان " العفوي إلى شكل "لوزان" المنظم، فإن الاحتكاك بالنصوص الشعرية التي كانت ترافق " الآلة " من توشيح وزجل أتاح للملحون أن يطور أشكاله عبر عنصرين اثنين:
الأول:التقسيم المنظم للقصيدة، ويسير على هذا النحو الذي سأكتفي بالإشارة إلى مصطلحاته، إذ لا يتسع المجال لتوضيح سماته المنعكسة على تلوين الوزن والقافية، وتنويع الأداء كما سياتي بعد.
1 ـ مقدمة= السرابة .
2 ـ الدخول.
3 ـ الحربة = (اللازمة).
4 ـ القسم( قد يقدم له بالعروبي أو الناعورة أو السويرحة أو الكرسي).
5 ـ بعد الأقسام تختم القصيدة بآخر قسم أو بالدريدكة، وتنشد على إيقاع سريع.
الثاني:الأوزان، وتتسم بغنى عروضي لا مجال لحصره ولا يسمح الوقت بتفصيل القول فيه. وأقتصر فيه على ذكر أهم عناصره، وهي:
1 ـ المبيت وهو الشعر الذي يقوم على البيت، ومنه جاءت التسمية. إلا أن البيت فيه لا يسير على نسق واحد كما هو الشأن في القصيدة العربية، بل تنبثق منه أربعة أشكال:
أ ـ المثنى وفيه يتكون البيت من شطرين يطلق على الأول "الفراش" وعلى الثاني "الغطا". ويتم ضبط وزنه وفق "قياسات" لا حد لها، هي أشبه ما تكون ببحور الشعر العربي ، وأبسطها "قياس المشركي" الذي جاءت عليه قصيدة "الحجة" لعبد الله بن احساين الذي هو أول من قال فيه، وكان يعيش في أواخر القرن التاسع الهجري، وحربتها:
يالحضرا قولوا بالسر والجهار الصلا والسلام اعلى النبي المختار
ويعتبر هذا القياس أبسط أنواع المثنى ويطلق عليه لسهولته "لحويط لقصير". وهو أقرب إلى الرجز الذي وصف بأنه "حمار الشعراء".
ب ـ الثلاثي ويتكون من ثلاثة أشطار وبقياسات متعددة.
ج ـ المربوع أو الرباعي ويتكون من أربعة أشطار وبقياسات كثيرة.
د ـ خامس لشطار أو الخماسي، ويتكون من خمسة أشطار وبقياسات عدة.
2 ـ مكسور الجناح، وتتكون القصيدة فيه من أقسام، كل منها يخضع لهذا التقسيم:
أ ـ الدخول: شطر في استهلال القسم بدون عجز.
ب ـ مجموعة أشطار قصيرة تسمى "لمطيلعات" أو "لكراسا".
ج ـ بيت على وزن الحربة وقافيتها.
د ـ الحربة.
ويمكن التمثيل لهذا الشكل بقصيدة "المزيان" لمحمد بن علي.
3 ـ المشتب، وتتكون القصيدة فيه كذلك من أقسام، كل واحد منها يتشكل من بيت يفصل فيه بين أول أشطاره وبقيتها بعدد من الأشطار القصيرة تسمى كذلك "لمطيلعات". ومعروف أن الشتب هو الحشو الذي يملأ به الفرش أو نحوه، ومنه جاءت التسمية.
ويمكن التمثيل لهذا الشكل بقصيدة "التوبة" لمحمد بن سليمان.
4 ـ السوسي، وتتألف القصيدة فيه من أقسام يكون كل منها مكونا من الأجزاء الآتية:
أ ـ بيت من شطرين.
ب ـ مجموعة أشطار حرة في الوزن والقافية لا تخضع لغير تسلسل الإنشاد.
ج ـ بيتان أو ثلاثة أبيات موزونة ومقفاة .
د ـ الحربة على نفس وزن هذه الأبيات وقافيتها.
ويمكن التمثيل لهذا الشكل الذي يكثر في المحاورات بقصيدة " الزمنية والعصرية" لحسن اليعقوبي.
القيمـــــة الفنيــة :
يعتبر د. عبد الوهاب الفيلالي الملحون فنا شعريا وإنشاديا غنائيا متميزا، وقد يكفي السامعَ سماعُه وتذوقُه الانطباعي تَعَبَ البحث عن بواعث ومظاهر قيمته الفنية وكوامنه الجمالية. وإذا كان هذا شعور جل أو كل المتلقين، فإنه من الدواعي الأكيدة عند الباحث في فن الملحون لرصد تلك البواعث والتجليات، وتفحصها بعناية تامة حتى تتكشف أسرار قوة تأثيره الفنية في السامع المتذوق وفي غيره من الفنون الحديثة.
ولما كانت المظاهر الغنائية للقيمة الفنية للملحون كامنة في التوليف القائم بين الآلات الموسيقية الأصيلة، والمقامات والطبوع، وصوت المنشد، وما يثيره فعل الغناء من شعور في نفس المتلقي في المغرب وخارجه، ويورثه من إنجازات- جوائز و أوسمة- في منتديات ومحافل دولية في مختلف أصقاع العالم، وكان ذلك من اختصاص الباحث في فن الموسيقى والغناء، انصب اهتمامنا على الشعر الملحون الذي خلصنا إلى قيمته الفنية من خلال استجلاء مجموعة من بواعثها وتجلياتها، نورد بعضها تباعا كالآتي :
أولا : تتفاعل في نسج قصيدة الملحون مقومات وآليات الاشتغال الفنية المتداولة في اللغة الشعرية مع بروز بعضها، مثل الحكي أو القص، والحوار، والوصف والتشخيص، مع الانفتاح على أفق الخيال المبدع للصور المتجاوزة أحيانا كثيرة مستوى الصور التشبيهية التقريبية والجزئية أو الصغرى إلى الرمز والإشارة والصور الكلية الرؤياوية التلويحية المنتجة للمعنى الإيحائي والصادرة عن مستوى "الإدراك الحلم"، في مثل بعض قصائد الملحون الصوفي عند عبد القادر العلمي ("الساقي"-"البستان")، ومحمد الحراق، وأحمد بن عبد القادر التستاوتي، والفلوس، وغيرهم، وأيضا في العديد من قصائد الغزل، عند أمثال الجيلالي متيرد والتهامي المدغري، وفي بعض "الجفريات" وقصائد "الحجام"و "الشمعة"، حيث يكون النص فضاء سفر في الزمن النفسي، ويكون كل واحد من مكونات العالم الخارجي الحاضرة فيه جزءا من صورة العالم النفسي الداخلي وحلم اليقظة الذي تصبو إليه الذات.
وفق هذا الطرح الرمزي الإيحائي ينبغي أن تقرأ الكثير من قصائد الملحون، مثل قصيدة "البستان" و" الساقي" لعبد القادر العلمي، وقصيدة "الشمعة" لابن علي وغيرها. فهي من صنف الصورة الرؤيا و مستوى مقام الكشف في الإبداع الفني، "فالساقي" - مثلا- مأوى لتجربة روحية ذوقية، ولطموح صوفي يسمو على المظهر المادي المدنس إلى الباطن الروحي المقدس، المتجلي في وصال الحق، والنعيم بصفاء الحياة الصوفية، ورؤية نوره سبحانه بعين البصيرة، رؤية ذوقية قلبية، تفاعلت في بنائها عناصر الطبيعة بأشجارها وأزهارها وأطيارها، وليلها وفجرها ونهارها، والسكر بخمره وأوانيها المتميزة، ومجالسه وطقوسه التي تتفاعل فيها المرأة الجميلة والموسيقى المثيرة والطرب واللهو والزهو…. ومن أقسام القصيدة التي تجتمع فيها تلك العناصر قول العلمي :
رَاحْ الليـل وَلا ابْقَا
الاَّ و قت المعَانْقَا
كَبّْ ارَى وَرْخِ الرّْوَاقْ
اولشجَـار الباسقـا
اوْ لطْيارْ الناطْقَا
عمّـرَاتْ بَلْغَاهَا اسْوَاقْ
كبّْ الصهبا الخَارْقا
مَنْ كيسان لَبْنَادْقَا
منْ زِاجْ ابْلاَد العْـرَاقْ
تَظْهَرْ خَمْرَا بارقـا
فَا لْلأواني شارقا
كِلُونْ اسْحِيقْ الرهَـاقْ
غنيّ بَشْعَــارْ القدَّام وذْكِرْ طَبْعْ العُشِّاقي
مَتَّغني فجْمَال صُورتَكْ والحَاضَكْ لغْسِيقَا ياخَدْ الوَرْدْ الشَريقْ
بَصْنَايَعْ وسْجولْ والتواشَحْ مَنْ شُغْل دْوَاقِي
وَذْكَرْ قُصْدَان اكْبَاحْ وبْرَاوَلْ فَتْرُونِيقَا
منْ طَرْز الحَبْر اللبِيقْ
إذا كانت تلكم حال الصور الرمزية أو الكبرى فإن الصور التشبيهية أو الجزئية لا تخلو بدورها من قيمة فنية، من ملامحها بساطتها المحافظة على تواصل شاعر الملحون مع وسطه الشعبي الذي أنجبه وشعره، والسمو بالمحبوبة في قصائد الغزل فوق باقي الموجودات التي جرت العادة أن يشبه بها جمالها، من خلال قلب الأدوار بين المشبه والمشبه به، مثل تشبيه عيون الظبي بعيون المحبوبة في قول الحاج ادريس بن علي السناني لحنش من قصيدة "ياسمين" :
وعيون كعْيون الظَّبِي اسْرَادَا مْهَدْبِينْ
وَيلا نْجِيوْ لَلْحَقْ الغْزَالْ ايْغِيرْ مَنْ اهْدَابَكْ.
وسمو ضياء جمالها على نور الشمس ساعة الضحى في قوله من القصيدة عينها :
انْتِ الِّي اعْلاَ شَانَكْ عَلْ لَبْنَات كاملين
والشمس فالضحى تَسْتَحْي، تَغِيرْ مَنْ خيْالَكْ
وعلو مقامها على كل مصادر الضوء في النهار والليل في قول محمد بن علي ولد ارزين في قصيدته "زينب" :
مَا مْثِلَكْ بَدْرْ افْغِيهَابْ
والنهار اشْموسو فَمَامْ صورتك مَرْهُوبَاِيك يَسْري َمَّنْ ُوكَبْ
كل هذه الصور الصغرى توحي بمكانة المحبوبة في نفس الشاعر، وما يكنه لها من ودٍّ يتجاوز الحدود الفاصلة بين الموجودات ومظاهر الطبيعة الأرضية والسماوية، فتغدو جميعا في خدمة المحبوب النموذج أو المثال وكشف عاطفة الشاعر تجاهها، ترمي كلها إلى معادلة اللغة للعاطفة معادلة موضوعية تتحول معها المبالغة إلى مكون فني محمود ومطلوب، كما في قول التهامي المدغري من قصيدة "عين الحرشا" :
عينو اسباب ديك النار الشعالا
شفت عين ادّوَّب لحبل
وتوكح لبحور بَعدا تَملا
ثــــانيا : لم يكتف شاعر الملحون بمصدر واحد في بناء صوره، وإذا كانت النماذج التي أوردنا ضمن إبراز بعض الملامح الفنية في الصور الصغرى التقريبية مستقاة من الفضاء الطبيعي، فاءن الطبيعة لم تشكل الرافد الأوحد للصورة الشعرية في فن الملحون، وإن حضرت بقوة، إذ هناك – فضلا عنها وعن خيال الشاعر – الحضارة المغربية بمختلف تجلياتها، كل حسب منطقته ومجال عيشه وفسحة حركته وتنقله، وهناك أيضا الواقع المغربي الديني الأخلاقي، والاجتماعي الحياتي اليومي، والحربي…، وثقافة الشاعر التي تتجلى فيما يستدعيه من شخصيات تراثية أو أسطورية، وأحداث ووقائع ومعارف في شتى مجالات المعرفة الفكرية والعلمية؛ الدينية والفلسفية والصوفية والأدبية….
للتمثيل فقط، نلاحظ أن الصورة الشعرية في شعر شاعر فاس محمد بن سليمان تتقاطع في بنائها عناصر الطبيعة، والحضارة الفاسية – خاصة – بأثوابها وملابسها، وعمرانها ومعمارها، وعاداتها وتقاليدها، وموسيقاها ومجالسها…، وقصيدته "الحجام" نموذج لأثر هذا المدار الحضاري في صوره، ينضاف إلى ذلك واقع الحروب والصراع بين القبائل والثورات على فاس عاصمة البلاد (جروان- بني مطير- آيت أومالو…)، واستدعاء الشخصيات التراثية والأسطورية والرموز الدينية…، والمطلع على شعره، مثل قصيدة "الشهدة" وقصيدة "السيف العلاوي"، يتلمس هذه المصادر أو العناصر ويستخلص غناها، يقول في القسم الأول من قصيدة "الشهدة" :
الرعد زام طبلو من بعد كناطر الصمايم
والبرق سل سيفو ويخبل في خيول لمزان
والـــريح فــارس يشـالي
عن عكاب العلفات عل الوغا مشمر
القزاح شد بند للفرجا عساكرو تلايم
وحرك بالمطار للبيدا حتى جرات ويدان
قــلبي بـــحبها ســالي
وبطايح النواور تدهكن منها نسايم
فصل الربيع هذا ما كيفو فزمان سلطان
كــل فج من ديك الصبا مخضر
وعلـــى اجــميع لقيـالي
عبقــري لابس منو دايرا موبر
مبسم الثنايا مشروح وفاز بالغنايم
بالورد والزهر عل لطيار الناشد اصبهان
فــرياض مبتهـــج عالي
بيـن وردات النحلة شهـدها تعمر
فهذا القسم وحده تتلاقح في تشخيص معناه ساحة الوغى ومشاهدها وعناصرها الحربية، والطبيعة وبعض مكوناتها ومظاهرها الأرضية والسماوية، وكذلك بعض الطبوع الموسيقية (اصبهان)….
ثـــالثـــا: يتنوع البناء الهيكلي لقصيدة الملحون ولأقسامها تماشيا مع تنوع البناء الإيقاعي، وتنوع البحور (المبيت-المشتب-السوسي- مكسور الجناح)، والخصوصية البنائية أو الصورية التي يفرضها كل بحر.
معنى ذلك أن التحول الإيقاعي والصوري المنظم يعد من خصائص أقسام قصيدة الملحون، وملامحها المبعدة عن الرتابة الفنية، والمفيدة للحركة والمسهمة في الإبداع وبعث الشعور بالجمال عند المتلقي، بفضل التوليف الإيقاعي والإنشادي القائم بين مختلف الأطراف المشكلة للقصيدة (الأقسام- السرابة –النواعر –العروبيات….)، حيث يدخل التشكيل الصوري المعماري في علاقة تخاطبية مع التشكيل الإيقاعي ومع الإنشاد وطبوعه فتأتي "السرابة" –مثلا- سردا إنشاديا سريعا بالمقارنة مع أقسام القصيدة…، وتتردد الحربة في كل قسم بصوت إنشادي جماعي…، إلى غير ذلك من مظاهر التواصل والتفاعل بين فضاءي النص والإنشاد.
رابـــعــا : ارتباطا بمقوم الحكي في الشعر الملحون، ومراعاة لقوة حضوره في العديد من الأغراض وأصناف القصائد (شعر الغزل- الحجام-المرسول-الخلوق-الوفاة-المعراج…-وصف الطبيعة-النزاهة-الغزوات…)، وأيضا قدم الشعر الملحون وارتباطه الوثيق بالهوية الفنية والثقافية المغربية، يمكن اعتبار قسم مهم من هذا الشعر واحدا من الأصول الحكائية في المغرب إلى جانب الحكايات الشعبية، والخرافات، ونصوص المناقب، وحكايات الكرامات الصوفية، وغيرها.
خامـســا : بناء على القيمة الفنية للشعر الملحون، وباستحضاره في الحسبان يمكن أن تراجع بعض أحكام القيمة الصادرة في حق الأدب المغربي في بعض فتراته، مثل الحكم عليه بالضعف والسقوط إبان القرن التاسع عشر الميلادي الذي لم ينتبه عدد من مردديه إلى الشعر الملحون والأدب الصوفي أحق الانتباه، وإلا كانت النظرة أوسع وأشمل، وتغير ذلك الحكم بعضه أو كله.
سادســـا : يتميز الشعر الملحون بتفاعل ناجح بين اللهجة المغربية ولغة المعرب المدرسية إلى حد التماهي بينهما الذي ولد لغة الملحون وكان أحد أهم خصائصها الفنية، هذه اللغة التي تنماز بالخرق والتجاوز في المعجم والتركيب والدلالة، مادام هناك من الكلمات الفصيحة ما يتحول في نطقه إلى الدارج العامي، ومن الفصيح واللهجي العامي ما يتبدل معناه جزءا أو كلا، هذا فضلا عن ولادة وحدات معجمية لا عهد للفصيح واللهجي العامي بها.
إن من شأن هذه الخصائص اللغوية أن تكون بواعث فنية وجمالية تكسر أفق انتظار المتلقي الذي يقرأ نص الملحون ويستأنس بالفصيح والعامي فيه ظانا أن معنى الكلمة واحد، اكتفى شاعر الملحون بنقله ليس إلا، والصواب غير ذلك، فحين يقول –مثلا- حمود بن ادريس في قصيدة "الحجام" : "صول احجام العانس الدامي"، فإن تفسير "العانس" بالفتاة التي تجاوزت سن أو مرحلة الزواج دون أن تتزوج، الثابت في المعجم العربي الفصيح، يعد تفسيرا خاطئا، إذ عكسه هو الصواب كما توحي دلالة ذلك الشطر، "فالعانس" فيه فتاة حسناء مطلوبة، يعشقها الشاعر فيدعو "الحجام" الرسام إلى تشكيل الصورة أو الوشم بإيحاء من حبه لها وجمالها الأخاذ. كذلك هو مفهوم "العانس" في كل الشعر الملحون ومنه قول التهامي المدغري من قصيدة "عيون المهرا":
يوم اتمايحت أنا وعانسي والغصن افتلقاح
بين ورد امكـــــــــــــــلل بنداه طيبولقاحا
واطيار عليه افصاح بين للقاحي
اغلب نوح لطيار وقدها اغلب الغصن فضياح
والخد اغلب بنصاح ورد فصباحي
والثغر غالب جوهر النظيم بنصاحا
بعيدا عن هذا المثال وذاك، يمكن الرجوع إلى ما تداوله الدكتور عباس الجراري من مصطلحات ووحدات معجمية في كتابه "القصيدة" وغيره، وأيضا القسم الأول من الجزء الثاني من "معلمة الملحون" لمحمد الفاسي الخاص بالمعجم، فهذان وغيرهما مثل "الملحون المغربي" لأحمد سهوم مصادر مهمة تؤشر على قيمة وخصوصية لغة الملحون المعجمية والتركيبية والدلالية وتدعو إلى مزيد من البحث في هذا المجال اللغوي.
سـابـعـا : إذا أمكن اعتبار تعدد أغراض الشعر ونشاط النظم من مظاهر القيمة الفنية، فإن الشعر الملحون في المغرب عرف بأغراضه المتنوعة والمتفرعة والمكتنزة، فالمديح النبوي –مثلا- يشمل وحده ألوانا من الموضوعات أو الأغراض الصغرى التي تعرف بها قصائده، منها : الخلوق، والوفاة، والمعراج، والمرسول، والمرحول، والحمام، والورشان، والغزوات، والتصلية…، وشعر الهجاء تندرج ضمنه قصائد "الدعى". والمطموس، والمهراز، والبغاز، والقرصان، وأيضا الخصام، وغيرها.
الملاحظ، في اتصال بتعدد الأغراض ونشاط النظم وذيوع نصوصه، أن شعر الملحون لم يتراجع عن إرضاء الذوق العام، وتربية ملكة الخيال عند العامة والخاصة، ومساوقة المسار الفني والفكري في المغرب بقدر ما احترمه وشكل أحد ركائزه المميزة، ولذلك حين نعتبر الأدب الديني ركنا مهما وجوهريا في بناء صورة الأدب المغربي، وأنه الأدب الرسمي الحقيقي، إذا راعينا خصوصية الانتشار والذيوع، إنتاجا وتلقيا، وضمنه الأدب الصوفي، خاصة في القرون السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر وبداية العشرين، فإن الشعر الملحون يؤكد حضوره الفعال في إثبات هذه الحقيقة.
ثـــامــنـا : يخلص الفاحص لفن الملحون، شعرا وإنشادا وسياقا، في تواصل مع الحركة الفنية المعاصرة بمختلف أنواعها، إلى وجود توافق وتقاطع متأصلين بينه وبين بعض الفنون، مثل المسرح والتشكيل، وبعض فن الغناء الحديث والمعاصر…، مؤدى ذلك أن فن الملحون مؤهل لتجاوز زمانه والاستمرار في ذاته من خلال تفاعله وتواصله مع الفنون الحديثة. وأهليته تلك نابعة من قيمته الفنية المتجلية في كفاءة الوصف والتشخيص وتوظيف طاقة الخيال ومكتسبات الذاكرة، والوعي الفني لدى أصحابه، وكذا خصوصيات إنشاده، وقوة تأثيره في المتلقي التي أبرزها أحمد التستاوتي-أحد شعراء المعرب والزجل – في الباب الخامس الخاص بالملحون من مجموعه الأدبي: "نزهة الناظر وبهجة الغصن الناضر"، مشبها الشعر الملحون بنغم الوتر الذي يطرب ويحرك ويثير، وتدعن له الأسماع والقلوب، يقول في تقديمه لذلك الباب :"الباب الخامس في ذكر ملحونات مثل نغمات الأوتار، تطرب الأرواح، وتحرك الأشباح، وتلبس القلوب ملابس الانكسار".
لقد أثبتت بعض الأعمال الفنية الحديثة كفاءة فن الملحون وأهلية استمراره في الزمان مثل مسرحية "الحراز" ومسرحية "الدار"، وتلك القصائد التي غنتها بعض المجموعات الفنية المعاصرة، مثل "جيل جلالة" و "ناس الغيوان"، ومنها قصيدة "الشمعة" لابن علي، و"مزين أو صلوك" لعبد القادر العلمي، و"الشهدة" لمحمد بن سليمان وحربتها :
اصاح زارني محبوبي يامس كنت صايم
شهد اقطعت واجنيت الورد كالوكليت رمضان
مهجوره قلت مدى لي
أحبيب الخاطر واش لمريض يفطر
تــاسـعــا : تصادفنا في مسار رصد بعض ملامح المكانة الفنية للملحون مجموعة من أحكام القيمة، صدرت عن مولعين بهذا الفن وباحثين فيه، في حق العديد من شيوخ نظمه وشعرهم، من شأنها أن تكون مرآة من مرايا فنيته والوعي الفني عند أصحابه، وأن تحرك همم الباحثين لبذل مزيد من الجهد في استكشاف خباياه وكشفها ، من ذلك قول الدكتور عباس الجراري في حق التهامي المدغري :"ولعل شهرة المدغري في الزجل… لم يدركها غيره حيث كان يعتبر شاعر المرأة والخمر الأول… في كل فترات الزجل، ويعتبر بالتالي أكثر الشعراء قبولا لدى الجماهير"، وقوله أيضا في حق الحاج ادريس بن علي السناني لحنش :"أكبر شعراء الزجل بعد التهامي المدغري، كان ينظم في كل الموضوعات فيجيد…". أما الباحث محمد الفاسي فيقول عن الجيلالي متيرد وشعره :"من أكابر شعراء الملحون… وهو من الطبقة العالية في هذا الميدان… كان … ينظم في سائر الأنواع وفي جميعها شاعريته من الطبقة الأولى" ويقول عن التهامي المدغري : "يعد عند كثير من النقاد أكبر شاعر في الملحون وخصوصا في النوع الغنائي".
توارثنا في هذا السياق مجموعة من الآراء والأحكام في حق الشعر الملحون وقيمة شعرائه ومكانتهم، فاه بها معاصروهم، لا مندوحة عن الاهتمام بها ومراعاتها وفحصها من خلال دراسة شعر من قيلت في حقهم، وهي آراء تتسم بالحكمة والتأمل العميق، وإن ظهر للوهلة الأولى أنها ذات طبيعة انطباعية، منها قول السلطان مولاي عبد الحفيظ في الجيلالي متيرد :"هو امثرد وعامر بالثريد"، وقول الفقيه العميري في حق تلميذه عبد القادر العلمي بعد تفوقه في مباراة شعرية تبارى فيها مع غيره من التلاميذ في حضرة الشيخ :"هذا الذي دخل الروض وجنى ورده"، ومنها أيضا القول المشهور في شخص محمد بن علي ولد ارزين :"فاكهة الاشياخ وشريف المعاني"، وما يقال عن عبد العزيزالمغراوي :"كل طويل خاوي إلا النخلة والمغراوي" .
ما كان لهذه الأحكام والآراء الصادرة عن تذوق فني وتأمل في الشعر الملحون أن توجد لولا ما يتحلى به هذا الشعر من مقومات فنية وخصائص دلالية مثيرة، فما بالك لو أضيف اللحن أو النغمة إلى الكلمة … وحل الإنشاد محل القراءة الشعرية، لا محالة ستتكشف أكثر آنذاك القيمة الفنية للملحون.
مكانة الملحون في خريطة الشعر العامي المغربي :
يرى د.عبد الوهاب الفيلالي أن المتأمل في مختلف أنماط الثقافة الشعبية و مكوناتها يخلص إلى متعها بمميزات متعددة و كفاءات تخييلية لا يختلف كلاهما عما يمكن أن يجده المتتبع في الثقافة العالمة .
معنى ذلك أن الثقافة الشعبية أهل للمشاركة في تجربة التثقيف و التعليم ، و تربية الأذواق و تهذيبها ، و لو خصصنا الحديث عن الشعرالعمي من ثقافتنا الشعبية المغربية لألفيناه من أرقى النماذج الممكنة تمثيلا لما قلناه ، فهو بشتى أنماطه خزان لذاكرتنا الشعبية و مفتاح لاكتناه العديد من ملامح هويتنا .
إن محاولة الفحص مع التدقيق و التفصيل داخل شعرنا العامي بحثا عن المؤثرات الدالة على ذلك تفضي إلى ألوان من هذا الابداع ، مثل العيطة بأنواعها ، و " الطقطوقة " ، و " الدقة " ، و " البرولة " ، و قصيدة الملحون ... و لما كانت العديد من الأنماط رست غالبا في مناطق معينة من المغرب ، فإن منها ما تجاوز ضيق الانتشار إلى فسحته ، و لا مندوحة في هذا السياق من أن تكون قصيدة الملحون النموذج الأمثل ، لأنها كما قال د. عباس الجراري " في طليعة ما أبدع المغربة على مستوى التعبير " ، و أنها كما بين الباحث منير البصكري " عرفت تطورا و ازدهارا على مر العصور ، حتى غدت من أغنى ألوان الأدب الشعبي المغربي ، و ذلك لغزارة مضامينها و تنوع أشكالها و تعدد مظاهرها الفنية ". كل ذلك وهبها من فرص الانتشار و أسبابه الكثير .
الملحـون والتاريـخ :
يستدل الباحث" محمد أمين العلوي" في هذا الباب بما جاء في" كتاب المصادر العربية لتاريخ المغرب" للأستاذ المرحوم محمد المنوني، ما نصه: «فإذا كانت المصادر التاريخية الموضوعية إنما تهتم باتجاه محدد، فإن المصادر الأخرى تفتح – أمام الباحثين – آفاقا قد تكون فسيحة في الكشف عن ألوان من التاريخ الحضاري، وأحيانا عن حياة الشعوب».
وتعليقا على ذلك يقول : ومن هذه المصادر: الشعر الملحون، الذي اختزنت ذاكرة «الحفَّاظ» العديد من قصائده وسراباته ورباعياته، تواترت جيلا بعد جيل، اللهم إلا ما ضاع منها بوفاة ناظميها أو منشديها. كما احتفظت كنانيش الملحون بهذا الرصيد الهائل من موروثنا الشعبي الذي شاءت الأقدار أن يُردَّ له الاعتبار، فتُنجَز حوله البحوث والرسائل والأطروحات الجامعية، وتهيَّأ له أسباب النشر بعناية أكاديمية المملكة المغربية أو بمبادرات فردية وغيرها...
والشعر الملحون أو العلم الموهوب، استطاع أن يتعايش مع العلم المكتوب، وأن يجد له مكانا في بعض إن لم نقل جل المضان التاريخية المغربية.
فقد اعتمد المؤرخون المغاربة نصوص الأدب الشعبي، وخصوصا الأزجال، حيث أفادوا منها، واستشهدوا بمتونها، وخصصوا لها حيزا، في مؤلفاتهم.
وقد أدرك المؤرخ العلامة محمد المنوني رحمه الله، كنه الشعر الملحون وقيمته الأدبية والتاريخية، فأوجز ذلك في كلمات: «ولعلنا سنجد في هذا النوع من الشعر من دقة الوصف ما لا نطمح أن نجده عند شاعر أو كاتب بالعربية الفصحى».
وبهذا الرأي السديد الموضوعي، تُتجَاوَزُ تلك «العجرفة الفكرية التي وُجدت عند العديد من المؤلفين والكتاب والمفكرين، والتي لم تكن تخلو من روح طبقية... تصنف الناس إلى فئتين: خاصة وعامة، نخبة ودهماء». وإن كان بعض شعراء الملحون، لا ينتمون بالضرورة لفئة العامة، بل ينتمون إلى أوساط النخبة المتأدبة، كالأولياء والسلاطين والأمراء والعلماء والأدباء وبعض المؤرخين.
فشاعر الملحون ليس مؤرخا بالمفهوم العلمي المتداول، ولكن يسجل الأحداث والوقائع ككاتب حوليات «Chroniqueur» يحذو في غالب الأحيان حذو المؤرخ النعل بالنعل، في رصد الأحداث والوقائع التاريخية، المفرح منها والمحزن، بالإضافة إلى تدوين الكوارث الطبيعية والأزمات الاقتصادية وغيرها... بتلقائية وبأسلوب زجلي مواز ومواكب للنص التاريخي تارة أو مكمل له تارة أخرى، بدقة وإسهاب في الوصف. يقف عند أدق التفاصيل والجزئيات التي قد يغفل عنها أو لا يتطرق لها – أحيانا - المؤرخ، حيث يقتصر هذا الأخير على التركيز والاختصار.
و في الأخير يجيز الباحث القول بأن قصيدة الملحون تضطلع بدور المساعد والمكمل للوثائق والمراسلات المخزنية وآداب المناقب والنوازل والرحلات والمسكوكات والنقيشات واللقى الأثرية ، لتصبح هي الأخرى - أي قصيدة الملحون – مصدرا للكتابة التاريخية ورافدا من روافدها «التي لا ينبغي إهمالها بالمرة، مادامت طبيعة البحث التاريخي أن لا يهمل المؤرخ أو يزدري أيا من المصادر».
إدريس الهراس ALHARRAS DRISS
الفقيه بن صالح في شتاء 2009م .