مكانة الملحون فـي خريطة الشعر العامي المغربي: بنياته ووظائفه وجغرافية تداوله
ننطلق في هذه الدراسة من عموم الثقافة الشعبية لنقول: إن متأمل مختلف أنماطها ومكوناتها يخلص إلى تمتعها بمميزات متعددة وكفاءات تخييلية لا يختلف كلاهما عما يمكن أن يجده المتتبع في الثقافة العالمة.
معنى ذلك أن الثقافة الشعبية أهل للمشاركة في تجربة التثقيف والتعليم، وتربية الأذواق وتهذيبها، ولو خصصنا الحديث عن الشعر العامي من ثقافتنا الشعبية المغربية لألفيناه من أرقى النماذج الممكنة تمثيلا لما قلناه، فهو بشتى أنماطه خزان لذاكرتنا الشعبية ومفتاح لاكتناه العديد من ملامح هويتنا.
إن محاولة الفحص مع التدقيق والتفصيل داخل شعرنا العامي بحثا عن المؤثرات الدالة على ذلك تفضي إلى ألوان من هذا الإبداع، مثل "العيطة" بأنواعها، و"الطقطوقة"، و"الدقة"، و"البرولة"، وقصيدة الملحون... ولما كانت العديد من الأنماط رست غالبا في مناطق معينة من المغرب، فإن منها ما تجاوز ضيق الانتشار إلى فسحته ، ولا مندوحة في هذا السياق من أن تكون قصيدة الملحون النموذج الأمثل لأنها كما قال عباس الجراري "في طليعة ما أبدع المغاربة على مستوى التعبير"(١)، وأنها كما بين الباحث منير البصكري" عرفت تطورا وازدهارا على مر العصور، حتى غدت من أغنى ألوان الأدب الشعبي المغربي ، وذلك لغزارة مضامينها وتنوع أشكالها وتعدد مظاهرها الفنية"(٢). كل ذلك وهبها من فرص الانتشار وأسبابه الكثير.
ذلكم، إذا، هو المشرع لتركيز هذه الدراسة على ثلاثية "البنيات"، و "الوظائف"، و "جغرافية التداول". إنا لا نروم من استدعاء هذه الثلاثية إلا محاولة الإبانة الوضاحة لمكانة قصيدة الملحون في فضاء شعرنا العامي بعد أن اختصرناها فيما سبق. وليعلم المتلقي بدءا أن عناصر " البنيات" و " الوظائف" و "جغرافية التداول" عندما تطرح في حقل معرفي فني مثل الأدب لا تعيش الاختلاف فيما بينها إلا لتشيد الائتلاف، ذلك أنها تشكل الشبكة العلائقية البانية للعمل الإبداعي في مساره التداولي ، وللعلاقة التواصلية بين الباث المبدع والنص والمتلقي والسياق العام ؛ فالبنيات علاقة بين النص وذاته أساسا، والوظائف علاقة بين النص- ومن خلاله مبدعه – والمتلقي وإطاره العام، وجغرافية التداول علاقة النص بمبدعه ومتلقيه في كل فضاء زماني ومكاني ممكن في حركته وسكونه؛ أي في كل المسار التداولي أو في مواطن محددة منه زمانا ومكانا.
هكذا، تكون دراسة البنيات كشفا لخصوصيات نصية –أساسا– في شعر الملحون ، تميزه عن غيره من أنماط الشعر العامي ، أو تظهر مكامـن تقابله وتقاطعه معها . أما دراسة الوظائف فهي تبيان لمجموعة من مناحي القيمة في هذا الشعر الملحون، في علاقته بمتلقيه فردا وجماعة. وأما جغرافية تداوله فتحمل مزيد تأكيد، بعد البيان، لقيمته تلك، وتفصح عن انتشاره وامتداده واستمرار وجوده في أفسح فضاء زماني ومكانـي ممكن، من حيث الإبداع النظمي والإنشادي، ومن حيث التلقي؛ أي من جهة تداوله الإبداعي ثم تداوله الاستقبالي أو ذيوعه في أوساط المتلقين.
لا ريب أن في ما قيل جواب على سؤال ممكن هو : لماذا لا نقتصر على عنصر من تلك العناصر في مقاربة مكانة الملحون في خريطة شعرنا العامي ؟ إن استدعاء كل تلك العناصر هو استدعاء لمختلف المناحي الكاشفة عن تلك المكانة، والمؤكد أن قصيدة الملحون تتمتع بأوسع انتشار ممكن مقارنة بغيرها، إذ لا ترتبط ببقعة جغرافية دون أخرى ، وليس حسبها وحدة بنائية معينة إن في النظم أو الإنشاد ، ووظائفها متعددة ، وذلك عينه هو ما يحدد قيمة شعر الملحون في خريطة الشعر العامي .
طبعا، لا نروم فيما قلناه التقليل من مكانة باقي أنواع الشعر العامي المغربي أو أنماطه، بقدر ما نهفو إلى تأكيد سمو مقام الشعر الملحون الذي ليس شيئا آخر إلا نمطا من أنماط إبداعنا الشعبي الذي قال عنه عباس الجراري":الإبداع الشعبي... فن ممتع ووثيقة شاهدة"(٣).
فعلا، الشعر الملحون في المغرب مثير فني إبداعي من خلال بنياته، ووثيقة شاهدة من خلال العديد من وظائفه وفضاء تداوله، وهذا ما لا ينبغي أن يحجب عنا حقيقة تفاعل شاعر الملحون وشعره مع بعض الأنماط الأخرى المنتمية إلى الشعر العامي التي يمكن أن نمثل لها بمكنة استحضار العديد من فنون هذا الشعر أو نصوصه في بناء إنشادي ملحوني،ثم بالمقارنة التي عقدها الباحث المبدع أحمد سهوم بين وزن قصيدة "الطير" للجيلالي امتيرد ووزن قبيلة " ابني احسن" ؛حيث أوضح أن أهل الملحون اعتمدوا وزن هذه القبيلة ونوعوا فيه وطوروه ( ٤ )، كذلك إشارته إلى أن وزن " الحراز" عند امتيرد وغيره بعده هو من " العيطة الحوزية"، وكيف أن بعض أهل هذا الفن الشعبي غنى شعرا للتهامي المدغري في بناء "السوسي" – قصيدة طالق المسروح - بطريقة " العيطة" لا "الملحون"، علما أن "السوسي" من ميازين "العيطة المرساوية الحوزية"(٥).
منطلقنا في هذه الدراسة، إذن، أن نثبت التفاعل بين فنون الشعر العامي وأنماطه، وذلك ما مثلنا له. وهدفنا أن نكشف مكانة شعر الملحون أو قيمته باعتباره نمطا متميزا باتساع فسحة تداوله مقارنة بغيره من أنماط الشعر العامي المغربي ،وكذا اتساع فضائه البنائي اللغوي، والهيكلي، والموسيقي النظمي والإنشادي . وسنسعى إلى هذا الهدف من خلال محاورة إيضاح وبيان جهد الإمكان.
أ- البنيــــات :
١- البنية الرافدة :
ليست البنية الرافدة إلا تلك المشارب التي امتزجت مجاريها فأنتجت قصيدة الملحون، ويمكن استحضار أهمها كالآتي:
- الأغاني والمرددات الشعبية المحلية.
- اللغة العامية غير المعربة ، واللغة المعربة .
- عروض البلد المتميز بأعاريضه المزدوجة مثل الموشح، وبلغته الحضرية.
- شعر الوافدين العرب إلى المغرب؛ الذين تمركزوا خاصة في موطن فن الملحون الأول: تافيلالت.
- الموشح وحضوره في المغرب.
- الزجل الأندلسي.
- نوبات الموسيقى الأندلسية وطبوعها.
الملاحظ أن هذه المشارب تجمع بين المحلي الداخلي والوافد الخارجي وتشمل ما يميزها عن روافد أنماط شعرية عامة أخرى. وتثبت القراءة المتأنية لها أنها ما كان أن تتشارك في مشروع إنتاج قصيدة الملحون لولا إمكانات التآلف المتوفرة بينها ، حيث تحقق تبادل التأثير والتأثر، وعرف الخارجي منها من التحول ما طبعه بالطابع المغربي، مثل الزجل الأندلسي وبعض الطبوع والنوبات وغيرها، وكذلك هو الأمر بالنسبة للمشارب المغربية الداخلية. و لولا ذلك لما تأتى لقصيدة الملحون أن تكون ذات هوية مغربية أصيلة تميزها عن غيرها، مما يجعل من تلك الروافد، فعلا، بنية متواصلة أجزاؤها تواصل بناء وإبداع مثلته قصيدة الملحون بعد بداية متحركة وفي مسار إبداعي متنامي.
٢- البنية المعمارية النظمية والإنشادية:
حري أن يعلم المتلقي أن البنية المعمارية في الملحون مستويان؛ أولهما نظمي نصي والثاني إنشادي، أما النظمي النصي فالمقصود به البناء الهيكلي للقصيدة بعيدا عن الإنشاد؛ ويكفي أن نلفت الانتباه في هذا السياق إلى أن قصيدة الملحون تتشكل من أقسام أو مقاطع يقدم لها بمطلع هو "الدخول"، ثم "الحربة"، وكل قسم أو مقطع ينتهي ب "الحربة" أو "اللازمة" سواء كانت من فن "المبيت" أو "مكسور الجناح" أو " السوسي" أو"المشتب"، بحيث تكون الحربة مؤشرا على الانتقال إلى قسم جديد، إلى أن تنتهي القصيدة.
إن هذا المسار الهيكلي هو ما منح نص الملحون صفة القصيدة تشبها بالقصيدة ونظامها المكتمل في الشعر المعرب.
لا ينبغي لما قلناه أن يرسخ عند المتلقي فكرة رتابة البناء في قصيدة الملحون، ذلك أن التنوع حاضر بالانتقال من فن إلى آخر. نلحظ كذلك مع كل لون فني بنائي خصوصية في بناء أقسام القصيدة تبعا لأشطر البيت عددا وبناء، فالبناء الهيكلي لأقسـام "المبيت" مخالف لنظيره في "مكسور الجناح"، كذلك الأمر مقارنة مع "السوسي"، أو"المشتب"، بل إنا نلمس الاختلاف الهيكلي في بناء القسم داخل الفن الواحد من تلك الفنون.
ينضاف إلى ما قلناه أن القسم الواحد قد يعرف تنوعا بنائيا واضحا دون الإخلال بالوحدة المشار إليها آنفا ؛ ففي قصائد فن" مكسور الجناح" مثلا يتشكل القسم من نظام الشطر في شخص الدخول ثم المطيلعات، أي الأشطر القصيرة ، ثم نظام البيت في شخص بيت شعري لا يخالف اللازمة بعده بناء وقافية، أما في المشتب فالهوية البنائية للقسم تتحول عن الفن السابق بأن تتوسط الأشطر القصيرة (المطيلعات) البيت فاصلة أوله عن باقيه. وإذا حاولنا استطلاع الحال البنائية لقسم فن السوسي ألفيناه لا يقتصر على البيت الواحد ، ولا يخضع البيت فيه لنظام عمودي ثابت وعدد محدد من الأشطر، وإنما يستهل القسم ببيت من شطرين تتلوه أشطر أو مقاطع ذات طابع نثري مرسل، فبعض الأبيات الممهدة للحربة والمماثلة لها بناء وقافية، ثم الحربة التي تكون محددة بعدد معين من الأشطر في كل أقسام القصيدة .
د. عبد الوهاب الفيلالي / كلية الآداب – ظهر المهراز - فاس 29/7/2009