زمزم
بمجرّد فراغ الأستاذ الإمام مخلوف محمودي ــ اقطاعي كبير ــ من درسه النصف شهريّ الذي شرح فيه قول الحقّ تعالى(( إن كرمكم عند الله أتقاكم))، و ان التقوى ــ دون المال و الجاه ــ هي المعيار الأول لأفضلية شخص على آخر، تصدّى له شيخ ضعيف البنية، رثّ الحال تبدو عليه آثار المسكنة.. سأله بصوت لا يكاد يسمع:
ــ أستاذ مخلوف، بلغني زعم البعض ان من شرب ماء زمزم بنيّة تحقيق شيء، حقق الله له ما نواه و مكّنه من مبتغاه، فهل صحّ في هذا شيء؟
ما ان فرغ الشيخ من سؤاله، حتى انتفض الإمام مخلوف محمودي كمن مسّه صعق كهربائي.. حوقل ثلاثا، استعاذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم صاح بالشيخ السائل وقد إحمرّ غضبا:
ــ أتقول" زعم البعض".. أتقول " زعم البعض"؟!
همّ الشيخ بالإجابة غير أنّ الإمام مخلوف محمودي عاجله مؤنّبا:
ــ الم يبلغك يا سي عمّار بو الزوّر (1)
ثم متهكّما:
ـــ أن ذلك " البعض" ليس غير الصادق الأمين و خاتم النبيين؟
لم يلبث الشيخ أن اعتذر عن جهله المعيب بالقائل الحبيب، كي يفسح المجال للإمام مخلوف محمودي الذي همّ بافادة الحضور بصحة حديث" ماء زمزم لما شرب له" غير أن صيحة " عندي إعتراض وجيه"، جعلت الحضور ينصرفون عن ذلك الشيخ الى حيث وقف فتى حسن الصورة لم تنبت لحيته بعد..
انبرى الفتى سائلا بثقة و بلاغة لا تتناسبان و سنه المبكرة :
ــ حضرة الأستاذ، إن في إمكان كلّ من هب و دبّ أن يتقوّل على الرسول. و لكن الإشكال لدى المتلقي النّبيه كان دائما هو الآتي: هل أنّ الرسول قد قال ذلك أم لم يقل.
أعلن الأستاذ الإمام مخلوف محمودي بصبر نافذ:
ــ أجئتنا سائلا أم معـلّما؟
أجاب الفتى بأدب جمّ:
ـــ معاذ الله يا أستاذ أن أكون معلما و أنا في حضرتك.
أضاف الفتى و قد لا حت على محيّا الأستاذالإمام مخلوف محمودي علامات ارتياح لا تخفى.
ــ و" هل يفتى و مالك بالمدينة"؟
ـــ !!!
ـــ و لكنني سمعت أن قوما لا خلاق لهم قد شككوا في صحّة هذا الأثر الشريف.
صاح الإمام مخلوف محمودي مؤكدا:
ــ هذا الحديث صحيح و رجاله ثقاة.. ثقاة. ثقاة..
ـــ ...
ـــ و من شكّك فيه فليس له في الإسلام نصيب.
ردّ الشاب معتذرا:
ــ ما شككت طرفة عين في صحة هذا الحديث. لكنني أردت مضاعفة ثوابكم بحثّ فضيلتكم على ردّ جديد يفحم أعداء الملّة الذين سيبلغهم قولك فيفحمهم. خصوصا وقد دأبتم على تسجيل دروسكم المباركة التي استفاد منها العالم و الجاهل، كما نفعت القاصي و الداني.
قال الأستاذ الإمام مخلوف محمودي وقد زال توتره تماما:
ـــ حياك الله يا ولدي وزادك إيمانا و يقينا.
تمتم الفتى السائل بخجل:
ـــ شكرا استاذنا الفاضل.
ما ان اتم الفتى كلامه حتى ارتدّ جالسا من حيث إنبعث.
عدّل الأستاذ الإمام مخلوف محمودي عمامته.. مرّر يده على هامته ثم طفق يقول:
ــ اعلم يا بني، وفقك الله لما يحبّه و يرضاه ان الحديث موضع النقاش قد بلغ سنده عنان السماء، فلا جدل فيه و لا مراء، وقد صحّحه الحاكم في المستدرك، و السّيوطي في الجامع الصغير كما ...
ما ان أتم الإمام مخلوف محمودي إفادته حتى انبرى شابّ ( يفوق الفتى الأول سنّا) سائلا إياه بلهجة مؤدبة يشوبها بعض توتّر:
ـــ أستاذنا الفاضل. مالي أراك شديد الثقة بان الله مبلّغ شارب ماء زمزم ما قد نواه؟
أجاب الإمام مؤكدا و بغير قليل من الشدة:
ــ "أفي الله شك فاطر السماوات و الأرض"؟
ـــ...
ــ ثم كيف لا أكون واثقا.
اضاف الأستاذ الإمام وهو يفيد الحضور:
ــ و هذا الحديث مجرّب .
ـــ ...
ــ و "ما يخرّش الميّة" على رأي المسلسلات المصريّة
ـــ ...
ـــ فمن شرب ماء زمزم بنيّة العلم، وفقه الله لتحصيله، و سهّل له أسبابه و علّمه ما لم يعلم.
ـــ...
ـــ و من شرب ماء زمزم بنيّة الرّزق، رزقه الله من حيث لم يحتسب .
ـــ...
ـــ و من شربه بنية الشفاء، شفاه الله، و أذهب عنه كل داء
ـــ ...
ثم اضاف و هو يلتفت نحو الشاب السائل:
ــ و من شرب ماء زمزم بنيّة تفريج الكرب، و إذهاب الهمّ، فرّج الله كربه و أذهب عنه همه.
ما ان اتم الإمام مخلوف محمودي وعظه، حتي صاح الشاب و قد كان كثير العلم بالزمزميّات أحاديثا و بحوثا و نوادرا :
ــ أما وقد أكدت لنا ذلك.
ــ ...
ــ فها أنذا أفيد فضيلتكم كما أفيد الجمع الكريم.
ــ ...
ــ بأنني قد فرغت الساعة من شرب كأسين كبيرتين من ماء زمزم.
ــ ...!
ــ بنية تسهيل زواجي من الآنسة وفاء.
ــ ...؟!
كانت الدهشة قد عقدت لسان الإمام مخلوف محمودي عن التلفظ ببنت شفة حين استمرّ الشابّ موضحّا:
ــ ابنتكم الكريمة!
اصفرّ وجه الإمام مخلوف محمودي.. أطرق قليلا.. لم يلبث طويلا حتى رفع هامته قائلا بصوت خافت و ان كان قد سمع رغم شدّة اللـّغط:
ــ وقد بلّغك الله مرادك.
صاح الشاب وقد كاد يحلّق فرحا:
ــ يعني؟
ــ قد زوجتك إياها!
ثم بلهجة أشدّ فتورا :
ــ على سنة الله و رسوله.
ـــــــــــــ 2 ـــــــــــ
نظرا لصغر البلدة التي شهدت الواقعة الطريفة، ثم نظرا لمعرفة سكان تلك البلدة بعضهم بعضا، لم يغب عن الحضور أنّ الشيخ الفاني الذي افتتح الحديث عن زمزم، هو والد الشابّين المجادلين.. ما غاب عن السواد الأعظم من الحضور، أنّ أكبر الشابين سنا كان قد تقدّم قبل أقل من شهرين من الأستاذ إلأمام مخلوف محمودي طالبا منه يد ابنته وفاء، فلم تشفع له تقواه، فعاد يجرّ أذيال الخيبة ويكابد مرارة الحرمان، بعد أن ردّ ردّا قبيحا لا لشيء، الا لفقره و ضيق ذات يده! ـــــــــــــــــ
(1) أراد الإمام السخرية الجارحة من الشيخ السائل، فعمّار بو الزور شخصيّة شعبية جمعت بين الرعونة و التصعلك و الخروج عن المألوف (المؤلف).
أوسلو 4 ديسمبر 2010