لم تكن صدمتي شديدة حين أبلغني صديقي مروان شكري بهجران زوجته ليليان له، قبل مضيّ شهر واحد من إفلاس شركته ..
كان مروان و ليليان بالنسبة الى كثير من الناس مثال الزوجين السعيدين. كما كانا ايضا مصدر إزعاج بالنسبة لي لإتخاذ زوجتي منهما معيارا لما يجب أن يكون سلوك الزوج تجاه زوجته. لأجل ذلك لم تكن زوجتي تدع فرصة واحدة لتعييري بالهدايا التي كان صديقي مروان شكري يمنحها زوجته بمناسبة و بغير مناسبة للإستدلال على حبه و هيامه بها،
من ذلك أنه كان يحتفل سنويا بذكرى أوّل لقاء لهما،و ذكرى خطبتهما وذكرى زواجهما، و ذكرى عيد ميلادها، و ذكرى و ذكرى...
ذات مرة حدث شجار كاد يأتي على حياتنا الزوجية من القواعد، حين فاجأتني زوجتي و هي تطالبني (و قد مرّ أسبوع واحد على تلقيها هدية ثمينة) بهدية أخرى بمناسبة عيد الحب العالمي (فالنتينو!) و ذلك أسوة بما تقته ليليان بالمناسبة.
كلما شكى لي صديقي مروان شكري ما كانت تكلفه تلك الهدايا المتتابعة كان يقفز الي ذهني مثل عربي يقول "لا خير في ودّ يكون بشافع" خصوصا و قد كنت على علم بعلاقات زوجته المتعدّدة، حتى انني هممت لأكثر من مناسبة بتنبيهه الى ذلك، غير انني كنت أجبن في كل مرّة رحمة لأطفال صغار سيتضرّرون حتما في صورة إنهيار أسرة صديقي مروان شكري و تفرّق ربّانيها.
ليست الخيانة هي ما أثأر دهشتي في قضية الحال، فلصديقي أيضا خطاياه التي طالما عزّزت إيماني بقول الحقّ تعالى( الخبيثات للخبيثين و الخبيثون للخبيثات)... الذي أدهشني في الأمر هو قلة صبر زوجتة ليليان و مسارعتها الى فصم عرى الزوجيّة فور افلاس الرجل، دون مراعاة للحالة المأساوية التي يمرّ بها زوج طالما
أحسن إليها.
ما حدث اليوم لصديقي مروان شكري من جحود و خيانة من قبل عشيرته المدلّلة، ذكرني بقصّة حقيقيةّ سمعت بداياتها من والديّ، و شهدت خاتمتها و غريب اطوارها بنفسي . و هاكم موجزها.
ـــ 2 ـــ
لأكثر من ستين عاما، ظلّ حسن و قمر زوجين سعيدين متلازمين "حتى قيل لن يتفرقا"..
تحمل حسن تضييقات عائلته، و أبى تطليق قمر بسبب عقمها، كما رفض الزواج بأخرى في وجودها.
كان رده الدائم :" لا يهمّني لو متّ دون أن أخلّف عقبا يحمل اسمي" ..ثم يعقب ضاحكا:" ليبق منصب ولاية العهد شاغرا!".
كان حسن يذكّر كل من نصحه بترك قمر، بأن الأخيرة قد فضّلته على أغنى شباب البلدة، و قبلت أن تعيش معه على الكفاف، و هي التي تعوّدت على العيش الرغيد." لم تكن، و هي تقبل بي، تعلم بأنها ستحرم من نعمة الأمومة"
حين يشدّد عليه الحصار، كان يردّ باصرار شديد:" لن أكون شرّ الشريكين... هي تنازلت عن المال في سبيل حبنا.. وها أنذا أتنازل عن البنين في سبيل حبّنا أيضا ".
ضربت قمر بدورها مثلا أعلى للوفاء، حين رفضت الزواج ثانية بأغنى و أوسم وجهاء البلدة، بعد مضيّ سبع سنوات كاملة يئس خلالها الجميع من عودة زوجها حسن من تجنيد إجباري بفرنسا طوال الحرب العالمية الثانية.. كانت دائما تصرّ على القول، بأن زوجها لا يزال على قيد الحياة، رغم إصرار رفيق سلاحه و صديق طفولته بأنه قد عاين أسم حسن ضمن قائمة المفقودين، و المفقود في الحرب و كما هو معلوم، يعدّ في أغلب الحالات من بين القتلى.. كانت قمر تردّ عن المشككين في موت حسن بثقة كبيرة جلبت لها خشية البعض من جنون شامل سيعتريها قريبا:" لا يمكن أن يموت حسن، ثم تبقى قمر على قيد الحياة كل هاته المدّة الطويلة..هذا لا يمكن أبدا "!
هكذا ظلت قمر تصر على اصرارها العجيب، الى أن حدث ما لم يكن في الحسبان، و عاد الغائب الى أهله!
إكتملت سعادة حسن و قمر، حين حدث أيضا ما لم يكن في الحسبان، أي حين رزقا بأسماء: بنت جميلة جاءت بعد عشرين عاما من زواج سعيد.
حين بدأت أعقل، وجدت أسماء تكبرني بخمس سنين .. رغم فارق السن فقد دخلنا المدرسة معا... حين بدأت أهتم بها كأنثى، وجدتها تتزوّج ثم تغادر حيّنا.
ظللت مجاورا لخالتي قمر وعم حسن لعقود طويلة شببت خلالها ثم اكملت دراستي و تزوجت ثم أكتهلت..
كثرة الأمراض التي كان تعتاد خالتي قمر، جعلت الجميع يرجّح رحيلها قبل شريك حياتها، لكننا فوجئنا ذات صباح برحيل عم حسن إثر سكتة قلبيّة نقلته الى المعسكر الآخر... كنت كجار ثم كطبيب للأسرة ،أول الداخلين على خالتي قمر للتأكّد من وفاة الرجل الطيّب.
كان الذهول يغلف السيدة العجوز من رأسها الى أخمص قدميها.
خلال عملية تجهيز الميت، و رغم حضورها الذهنيّ، كانت خالتى قمر في شغل تامّ للردّ على ما يحثها على الصبر الجميل..
لما كنت أقرب الجيران إلى رفيقة طفولتي أسماء، فقد قدّرت أن من غير اللائق اخبارها هاتفيا بما حدث، لأجل ذلك كلّفت نفسي عبء التنقل الى أقصى المدينة للقيام بتلك المهمّة البغيضة !
ــــ3 ـــ
بعد نصف ساعة من مغادرتي، دنت خالتي قمر من زوجتي ـ و كانت أقرب الناس إليها بعد إبنتها وزوجها ـ ثم استاذنتها بصوت هامس: " أريد أن أرتاح الي جانب عمك حسن"قالت ذلك ثم دبّت متبوعة بزوجتي نحو غرفة النوم حيث اضطجعت الى جانب جثمان فقيدها، راجية تركها بعض الوقت.
لم تمض أكثر من مصف ساعة على دخول خالتي قمر على زوجها، حتى جاء من يطالب زوجتي( باعتبارها ممثلة جارتنا العجوز) بالدفتر العائلي الذي سيمكن من استخراج رخصة دفن عم حسن.. حين دخلت زوجتي على خالتي قمر ثم حركتها لتدلّها على موضع الوثيقة المذكورة، وجدتها قد فارقت الحياة بينما كانت يمناها قابضة على يمنى زوجها!
ـــ 4ــ
كنت قد فرغت من نقل الخبر إلى رفيقة طفولتي أسماء، حين رنّ هاتفي الجوّال..كانت
زوجتي، تصيح بي:" آلو سامي..." صحت متألما" ماذا قلت؟... إنا لله و إنا إليه راجعون... هاك بلّغيها بنفسك.."
و أنا أسلّم أسماء هاتفي الجوال:" آسف أسماء... وهذا نصف الخبر الآخر !"
حدث ذلك قبل عشر سنين.
رحم الله خالتي قمر، لقد عاشت و ماتت دون أن تدري هل أن فالنتينو إسم إنسان أم ماركة معجون أسنان!
أوسلو 24 ماي 2010