النص لدى الشاعر فرج عمر الأزرق: نص بلا سقف
بقلم : محمد وليد الجموسي
مقاربة لتجربة متميّزة للشاعر التونسي فرج عمر الأزرق
إنّ الكلام على الكلام معضل إذا ما تحلّل اللفظ أجزاء تمنّع تجميعها وإذا ما افترق الدّال عن المدلول وانزاح الكلم عن معناه.
إنّها معاناة حقيقيّة يعيشها المتلقّي حينما يتشتّت لديه القاع الجامع لتجربة أتعبها العبث وأرّقها البحث.
إنّها تجربة الشاعر فرج عمر الأزرق هذا الذي فعلت فيه الآنيّة والزمانيّة فاستطاع أن يختلس من الماضي شذرات يطوّعها حسب مكتسبات أفاد منها وتنوّعت مشاربها.
إن تجربة الأزرق هي تجربة باحثة عن شتى أسباب الانطلاق, تبحث عن كيان يحتويها فينأى بها عن معاقل النثريّة الرتيبة ليلج بها أبواب الشعر المحض, هي محاولة لتوزيع الفضاء وإعادة تشكيله أو هي محاولة جريئة لإبداع فضاءات أرحب تنتصب فيها الجمالية علامة بديلة عن كل نفعيّة أو عن كل مشروع يدين بتاريخيّة ما, إنّها تجربة يأتلف فيها اللفظ باللفظ فتؤسس من غير وسائط لفعلين هما الهدم والبناء...
هي كتابة تلج مع كل قصيد أبواب الاختبار والتجريب فتنزلق من غير أن تقع من حيّز الأنا المتعالية الإبداعية إلى حيّز الأنا الباحثة المخبريّة.
وهكذا تتشكل مأساة الشاعر أضواء تتوزّع بين قصائده يستثمرها وفق نرجسيّة تعبث بالمأساة نفسها.
يقول في نص "كذا ........كما الماء حبيبتي........ أبدا لا تموت"
قد لا تموت القصائد فيزياء و قد تموت القصيدة بفعل أصابع الشعراء
...
...لكن حبيبتي أبدا لا تموت
لا هكذا ولا ذاك
تنهج البعث ماءحبيبتي و المفردات كذا تموسقها أصابع حلوى
كجات
عرائس غد
تلهب ملاءات الليل آهة أطلس تنعى فوضى الماء و لا تنعى حبيبتي
إنّ الكتابة مع فرج عمر الأزرق فعل يستحيل نرجسية موغلة في الذات فيتصدّع البوح من خلالها ويتشظّى وفق المتعدد من الأصوات.
إنّ الأنا هي المجال الحيوي الذي تتنزّل فيه هذه التجربة, إنها الباث الذي يحاول أن يجعل منها الشاعر المحور الخلاّق والمؤسس فهي تجعل من القصيد نافذة لتصريف خامات يختزنها المنشئ بعد أن اختمرت وانزاحت عنها أتربة كان قد نفثها الواقع الإنساني.
إنّ الأنا في قصائد فرج عمر الأزرق ترنو بطبعها إلى الفعل فينتصب الفاعل فيها حاملا رغبة صريحة في الامتلاك
يقول في نص بعنوان "مجامر لتوقيع الماء"
لأنّي وحدي أشغل رقعة الشطرنج
(أنا الملك
أنا الرخّ)
أعيد هندسة الفضاء
أردّ لحوريات الغاب فسيفساءها
أعتّق الطيور بلا أسماء
غيرأنّ هذه الذات كثيرا ما يتلبّسها حال من العجز فتنتصب ذاتا متحرّكة تتحوّل بين لوحات شعريّة أشبه بالحلقات المفرغة المثخنة بشتى أشكال المكابدة والرحيل
يقول في نص "قصيدة على مشارف باب الريح"
أيهذا الأنا وحدي..... بابل
و مفردات الاغتراب بدو
يختلجون في خاصرتي
لي في الأقاصي برواز قديم
يمتضغ زنبقات سود
تشدو مطر
تسابق الرياح العشر
ريح سكنت خبز المواسم
ريح تفرك عباءة النور مضمار غد مشبوه الأنفاس
ريح أفنت حليبا مستحدثا في سواعدنا
حبست خطى الغزال في حوض المعنى
ريح
و ريح
و خمس رياح تآلفت
الى نهرين شرد مجراهما
درت قصيدة -فوق العادة-
لا أذكر متى افترفت فراتها
و متى أكتبني دجيلة عود
فمن أنا سائل اقتفاء أثر الحرف بردا
في عيون تحتلم السكينة على نقيق الأغنيات...
إن فرج عمر الأزرق يحاول من خلال كتابته ان يعيد للأنا فاعليّتها وأن يضغط على مختلف أشكال معاناتها, إنّه يحاول أن يمحّضها إلى مستوى اللغة التشكيل متوسّلا في ذلك بلغة مغامرة جازفت بالبساطة واستعاضت عنها بتراكيب وأساليب لا يستوعبها غير الشعر.
وهكذا فإنّ اللغة في قصائد الأزرق تشكل منظومة يستحيل في معظمها تعيين الحدود الفاصلة والواصلة بين الجمل والمقاطع والصور, كما يعسر في الكثير منها تحديد الخيط الرابط والمنطق الذي يتحكم فيها.
إنّ اللغة مع هذا الشاعر تصبح في ذاتها الجمر الذي يحتوي ايقاعات تختلف ما بين البعث والعبث ومابين الوجود والعدم, إنها تصبح محاولة للخوض عميقا في المتاهة, إنها تتوغل في ضبابيّتها فترسم لوحات لا يجمع بينها غير زئبقية شفافة تحاول أن تتعالى عن كل قراءة ربّما.
يقول في نص "مدخل ضوئي الى كائنات تعتلي برازخ الصمت"
تخاتل انهمارات الوادي دهشة
طفل
تسارع عاري الأسماء نحو منابت
الضّوء
و ثقوب السّقف تسرد معنى الحلول
ضاحكا كان...
يكوّر عروق الشّمس شاشة
مقطوعة الزّوايا
و انطباق ضمّة المقصّ على رفات النّحل
يجتذب كيمياء العناصر...
و أضداد الأقطاب إلى مشفى المجاز
لكنّه بعد أعوام بكى(...)
إن اللغة مع فرج عمر الأزرق لا تريد أن تفصح عن ذاتها أو ربّما هي تستجير باللغة وعاء تبيح من خلاله التطرّف الأقصى, إنّه التطرف للغة باللغة وهو تطرّف يكون فيه اللفظ خالقا ومخلوقا, مادة وموضوعا.
غير أنّه تطرّف يثوي بين أعطافه انفجارا دلاليا لا يمكن أن نتمثله إلا متى تجاوزنا القراءة التصريحية إلى البحث تأويلا في إمكانات النص.
يقول في نص "آخر الغيمات عسرا"
مت
مت.... مت أزرقا مسفوكا على شرفات المدينة
مت
و ذا وجه ما عاد يدل علي
و ذي أصابعي خذلى تواشج رمانة
عرق سواي على أطرافها انتفض
مت
أنا الماء ان جشع
و انا الحرف.... ان نجس
و انا الواقف بعضي على تربة
تهتز لها أكمام الروح اثما
إنّ تجربة الأزرق هي تجربة الأنا الإنساني والأنا اللغوي وهي تجربة جماليّة مكابدة استطاعت ان تخترق السائد عبر ما رسمته لنفسها من أفق يحاول أن يفارق المعتاد, غير أنّ هذه التجربة على مقاصدها الجمالية تطرح علينا حيرة مزمنة لا شفاء منها سوى بإعادة البحث والتشكيل والقراءة عسانا في كلّ قراءة نظفر بما يرضي الفضول.. الفضول لفك شفرة نص لا يمنح نفسه بسهولة
محمد وليد الجموسي.]