هائمة تشعر بالأسى , تلاحقها الظنون ، ويأكلها الفضول ، يعصفان بكل جوارحها . كلما خرج ومتى عاد تسأله : كمال لماذا تظل طيلة اليوم خارجا في الدكان ولا تعود إلا ليلا ؟ أنا وأولادك نحتاج اليك… يجيب : أناأتعب ، والوقت الذي سآتي فيه إليكم ربح في البيع والشراء ، وعندي زبناء كثر ، فلا تقلقي ، ويستمر في الكلام والاقناع ، وسعاد لاتقتنع ؛ شئ في خاطرها لا يصدق ، وتكتفي بالصمت المريب ,فأيام سعاد متشابهة كا لرحى ، تدوروتطحن نفسها ، في كل الدوران نسيت أنها امرأة , تظل طيلة اليوم تلعب دور الرجل ، لا تتذكر نفسها أنثى إلا عندمايطلبها ، وقد هدها التعب وشل كل حركاتها ، وجمد أروع آحاسيسها . تعيش في بيت واسع ، تظل تنتقل فيه كالنحلة ؛ تنظف ،وتكنس ، وتطبخ ؛ لأن كمال يرفض وجود خادمة في البيت ، فلا أمان ولا ثقة فيها ، إنها مثل الزمن الغدار ، هكذايقول دوما . يرن المنبه مع الساعة السادسة ، تستيقظ سعاد مباشرة إلى المطبخ ؛ تعد الفطور لأطفالها الأربعة : توقظهم، وتقوم بإعداد كل لوازمهم الضرورية ، وتأخد السيارة ، لتذهب بهم إلى مدارسهم ، وتعود لتأخدهم في المساء ، فتوقيته ممستمر حتى فترة الغذاء ، ثم تذهب هي إلى عملها وعقلها شارد في زوجها، تستيقظ فلا تجده ، فهو يسابق الزمن كالريح .
يأتي وقت الغذاء ، فتشعر بوحدة ؛ فلا هي زوجة ولا هي مطلقة ؛ إنها معلقة في سرداب الأيام المتشابهة ، تأكل منصحتها وشبابها , كمال يعود دائما متأخرا أحيانا فيجد الأولاد قد ناموا ، فيتعمد إيقاظهم ليلعب دور الأب الذي نسي أن يلعبه طيلة النهار ، مرة يضحك ، وفي أغلب الأحيان يصرخ والكل يخاف ، ويقبع في حجرته، لينام لأنه طولاليوم في الدكان تعبان .
أما سعاد فتبدأ رحلة الرحى في جعل الأولاد ينامون من جديد ، فتضيع كل طاقاتها ، وهكذا تمضي الأيام ؛ فلا يلتقونإلا في الليل والأعياد .
في أحد الأيام جاء الليل ولم يأت هو ، فعصفت الشكوك بسعاد ، أكيد أنه يظل عند إمرأة ، مؤكد سيبيت معها .
نام الأولاد ، وهي تنتظر ، لا باب فتح ولا هاتف رن ولا رد ، وفجأة رن الهاتف ، صوت قوي مخيف : الأخت سعاد زوجك كمال في المستشفى ، تعرض لحادت سير ! ماذا تفعل تعالت دقات قلبها ، ولما دخلت المستشفى أخدت تسأل وتسأل إلى أن وصلت إليه ، إنه في غرفة الإنعاش ، والحالة خطيرة ؛ كسر في العنق ، ونزيف في المخ ، منعها الطبيب من الدخول .
بقيت أمام الباب تبكي ، اكتشفت أنها ما شبعت من زوجها ما حفظت أنفاسه ، ما عرفت أفكاره ، فصرخت بأعلى صوتها أن يمنحها وقتا لها ولادها ؛ كان دائما يرفض ويرفض ؛ تتذكر ، وتنتحب أمام الغرفة رقم 9 ، وفجأة سمعت نواحا وبكاء أمام الغرفة المجاورة : أم تبكي وتصيح، وأب عيناه جاحظتان الدموع تحجرت في مقلتيهما لا يتكلم ، الأم تطرق على الغرفة رقم 9 بعنف ، وتسب وتشتم : ضيعت شباب ابنتي ، ابنتي اغتصبت في عمرالورورد عليك اللعنة أيها الفاجر . ابنتي قاصر صغيرة ، لماذا أغويتها , وتعدد وتنوح . اقتربت منها سعاد : ماذا بابتك ؟
ـ إنها ماتت في حادتة سيرالآن ، وهذا الرجل من كانت معه في السيارة ماتت وتركت العار لنا ، وتبكي وتبكي مرة على ابنتها ، ومرة تلعن كمال . وسعاد شاردة ؛ اختنق صوتها في حنجرتها ، نادها الطبيب : البقاء لله في زوجك .
إحسان السباعى