حان الوقت للرحيل إلينا ،نختلس الاستماع و الاستمتاع إلى نبضاتنا و هي ترسل عبر أثير الروح إشارات إنسانية بسحنة ضاربة حد الإدمان في الانتماء إلينا أولا ثم إلى عروبتنا ،نحمل هذه الهوية التي تعيش اغترابها العلني في صمتنا و صمت مؤسساتنا ،نجوب بها دروبا تم تمطيطها بجرح القضية ،إنها غزة عندما تنثر بقايا جرحها على مائدة كبارنا الذين ينزلون إلى استصغارهم و دونيتهم باسمين ،فرحين بتحنيط غزة و كل قضايانا ،و يبقى مثقف الهامش وحده من يكابد عناء إعادة رسم جرح القضية ،ينوب عن الكبار كل الكبار في إيصال صوت غزة و هي من عمق جرحها تنادي و تصيح : " طال الجرح ،فمن منكم يتبرع لي بمسكن يوقف نزيف هذا الألم " .و مدينة الشماعية و هي تنظم يومها التضامني مع غزة الجريحة ،طريحة فراش صمتنا و تخاذلنا ،تكون قد نابت عن الكبار كل الكبار في اقتلاع وقفة و التفاتة لغزة التي تأكد بوار قضيتها في رفوف المكاتب الفخمة لأنظمتنا .كانت مدينة الشماعية يوم السبت 08 دجنبر 2012 شمعة أضاءت عتمة الصمت الرسمي وقفت عكس ما يمليه صناع تنويم المشهد الثقافي و الفني بالمدينة ،و لم يكن رصيدها في ذلك سوى مثقفيها ،أسماء بإبداعاتها و كتاباتها تمتهن النضال الفعلي ،أسماء أصرت و منذ عقود على أن تجعل من مدينة الشماعية شمعة من شموع ثقافتنا الوطنية ،أسماء حملت هموم قضاياها المحلية أولا ثم الوطنية و العربية ،ناورت ضدا عن التعتيم ،و ضدا عن التطبيع مع الجهل و التقاعس السلبيين ،فبفضل هذه الأسماء أصبحت مدينة الشماعية قبلة لكل الحالمين بغد مشرق لثقافة حقة . و للشماعية المدينة المناضلة و الصامدة الحق كل الحق في أن تفتخر برجالها و نساءها الذين يقتلعون من عمق الصمت أغنية الأمل لأجيالهم القادمة .
هكذا رأيتها و هكذا حلمت بها ،و كيف لا و هي تحتضن تجارب غنية و خصبة في فن الشعر بوجهيه الفصيح و الزجل ،فيكفي ذكر اسم الزجال ادريس بن العطار الذي يختزل وحده مسارا له الحضور الوازن و الفاعل في مشهدنا الثقافي عامة و الزجلي خاصة ،الناقد عبد الجليل العميري ،العين الثالثة للمدينة ،ناقد و باحث عرف كيف يؤثت لنفسه و لمدينته مكانة في المشهد النقدي المغربي ،شرف المعموري و الشيباني عبد الغني وجهان من وجوه الفعل المسرحي ،وحدهما يحملان رصيدا زاخرا من العطاء الفني يعكسان عبر فعل التجسيد تاريخا طويلا من فن مسرح لم يقبل على نفسه قط أن تسدل ستائر إيحاءاته ،مصطفى الخطيب ،مايسترو النغمة بامتياز ،موسوعة موسيقية نادرة ،قلما تجد له مثيلا ،خبير في " العيوط " بشتى تلاوينها و إيقاعاتها ،عبد الخالق الكلمان ،الوجه الذي يوزع الابتسامة بسخاء على دروب و أزقة مدينة تقتات على الابتسامة و على الأمل في غد أكثر إشراقا . أحمد بن العطار الخبير الرياضي الذي أمضى عقودا في النضال الرياضي من أجل ساكنة بجسم سليم ،رغم الإمكانيات المتوفرة غير السليمة .
أسماء و أسماء رسمت في يومها التضامني مع غزة لوحة بشتى ألوان الإبداع ،عرفت بوقفتها هذه كيف تتحدى و تتجاوز صمت صناع القرار بالمدينة ،عرفت كيف تنفذ بطيبتها و كرم و سخاء إنسانيتها إلى قلوب زوارها ،سيما الشعراء الذين قدموا من مدن أخرى ،الزجال المقتدر محمد عزيز بنسعد ،بلبل الشاوية محمد مومر ،الزجال علي مفتاح ،و الفنان المسرحي عزيز الصابرة ،الزجال عبد الرحيم الثقفي و الزجال عبد الكريم اليانوس ،و بحضور عدة فعاليات محلية و أجنبية ،متمثلة في الفاعلة الجمعوية مريم جراف عن جمعية الادماج الثقافي بمدينة برشلونة الاسبانية ،و الفاعلة الجمعوية فاتن جراف عن جمعية إشراق أحمر ،ثم الجمعوية و المناضلة التي تكابد ضدا عن الجمود و طمس معالم تراث منطقة " احمر " الغني بألوانه الأخت لطيفة الساكت عن جمعية أمل للمرأة و الطفل ،فقد انطلق الحفل التضامني ،الذي كان بدعم من نادي احمر لكرة القدم و الذي يرأسه السيد شرف المعموري ،الذي أعرب في مجمل حديثه عن سعادته الغامرة في احتضان مدينة الشماعية لهذا العرس الانساني الذي ينظم إكراما لغزة المسافرة دوما في جرح عروبتنا، و قد أعطى المثال الراقي على ضرورة التحام كل فعاليات المدينة من أجل إشعاع ثقافي و فني و رياضي خدمة للمدينة و لساكنتها المتعطشة لمثل هذه التظاهرات ،ثم أخذ الكلمة السيد الشيباني عبد الغني عضو بالمجلس البلدي للمدينة الذي رحب بالضيوف الشعراء كما أثنى على كل الفعاليات المشكلة للنسيج الثقافي و الجمعوي بالمدينة التحامهم و تآزرهم خدمة لقضايا مدينة الشماعية .فحلت الكلمة و نزل الحرف بهالته ينثر بريق الصورة و هي تلبس حلتها الشعرية ،فالتقطت العين قبل الأذن ملامح لوجدان مدان بجمال الحرف و هو يغازل قلوب الحاضرين ،يمد جسورا تنتسب للتضامن اللامشروط مع كل قضايانا و بشكل أدق مع قضيتنا الأولى و الأخيرة " فلسطين" ،فكان عبد الجليل العميري منشط الحفل يلتقط الصورة تلو الصورة ،يراكم بعينه الثالثة جوهر كل قصيدة ،يستقرئ الدلالات فيصوغها للحاضرين عناوين تلخص الانتقال النوعي و الجمالي من تجربة إلى تجربة أخرى و من اسم إلى اسم آخر،فكان الموعد أولا مع الطفلة الشاعرة شعشاع ،كانت فاتحة شعر ،أيقظت بداخلنا الحنين إلى كتاباتنا الأولى التي تنبض بالحياة و بعنفوان صياغاتها ،و كعادته دائما يوقف الزمن في لحظته الكائنة و المنفلتة كذلك ،يأخذ مكبر الصوت فيتراءى لك كبيرا بطقوس إلقاءه و بقيمة كتاباته التي يشهد لها بالريادة و سمو الحرف ،إنه الزجال المتميز ،الذي يروق لي دائما مناداته ب " الزعيم الروحي للطائفة الزجلية " الكبير دوما محمد عزيز بنسعد ،و من منطقة إلى أخرى و باختلاف الخصوصيات اللغوية و التعبيرية ،و التي هي سر غنى معجمنا اللغوي المغربي و كدا غنى مشهدنا الزجلي ،يطل علينا بلبل الشاوية الزجال المقتدر رئيس الاتحاد المغربي للزجل محمد مومر ،ليرسم على جبين كل عاشق لشعر الزجل أعذب الصور الشعرية ،فتتراءى لك الوجوه و قد ارتوت من ماء لا يقبل أن يكون غير صبيب لبحيرة الروح و الوجدان .و أما الزجال علي مفتاح فقد قرأ على الحضور قصيدة تحمل عنوان " غزة ... يتيمة الدم " .و ها هو زجال آخر ،وجه ينتمي بمرجعيته الابداعية إلى منطقة "احمر " الغنية و المعطاءة ،أرض حبلى بالإبداع ،وجه شبابي مصر أن يقتفي أثر من سبقوه و أن يمتطي صهوة القصيد بشعرية تغترف من معين رصيد المنطقة الزاخر ،إنه الزجال المتميز و الجميل عبد الكريم اليانوس ،فكان الحضور على موعد مع وجه زجلي آخر حاز مؤخرا على جائزة أحسن قصيدة في مسابقة زجلية كان موضوعها " حكومة بنكيران "،إنه الزجال الجميل عبد الرحيم التقفي ،فكان لنا شرف الاستماع للقصيدة ذاتها،التي لاقت اعجاب الحضور .
و قد تخللت الأمسية التضامنية التي نظمتها مدينة الشماعية فقرات موسيقية ،أحيتها فرقة من أعرق الفرق بالمدينة ،و كانت وصلاتهم بحق فرصة للحضور لربط الماضي بالحاضر و استحضار ظاهرة موسيقية طالما تغنى بها المغاربة ،و رددوا أغانيها بحب و بحرقة لامتناهيين ،إنها الظاهرة الغيوانية .
هنيئا لمدينة الشماعية ،و هنيئا لمبدعيها الذين عاهدوا الإبداع على أن يكون هو الطريق الموصل إلى قلب مدينتهم العاشقة لكل جميل .و باسمي و نيابة عن كل الإخوة الشعراء الذين رافقوني إلى مدينة السخاء و الكرم ،أوجه خالص شكري لجميع الإخوة بمدينة الشماعية و على رأسهم زجالنا المقتدر ادريس بن العطار ،الذي فتح لنا قلبه و بيته لاحتضاننا ،شكرا لكرمكم و لسخاء إنسانيتكم .و من قلب لا يحمل لمدينتكم سوى التقدير و الاحترام ،أقول للشماعية " سعداتنا بك ،و سعداتنا بهاذ اليوم اللي جانا قبل من غدا " .محبتي بمستوى شموخكم