وقف ينظر في صمت عجيب ما صنعت يداه. إنه قد استهلك وقتا كبيرا في العمل الذي كان يراهن عليه، لأنه سيكون محطة هروب من الروتين اليومي القاتل.
منذ مدة وهو يخرج من بيته مغلقا باب المنزل العتيق، ذي الأقفال الكبيرة. تاركا وراءه قطيعا من البنين والبنات في أحلامهم الرمادية، وزوجته مباركة مستلقية على بطنها المكتنز على السرير كتمساح قهره الحر واستلقى على الضفة فاتحا فمه للريح. يذهب مهرولا إلى ورشته التي ورثها وصنعته من أبيه كي يكمل إبداعه.
لحظتها سافر المختار بمخيلته وفتح باب الذكريات. تصفح الأوراق القديمة عندما كان في سنه العشرين وهو في الثانوي، كان أبوه قد أشرف على الستين وقرر تلقين ابنه مناهج صنعة النحت على الخشب حتى يورثه شيئا يكون له عونا في المستقبل. وحتى يضمن مكوثه زوجه بمباركة بنت الجيران.
أمضى زمنا لا يكترث لما يحيط به سوى العمل والبيت والتفريخ إلى أن أصبح أبا لخمسة ذكور وثلاث إناث. لحوم ذات أفواه مفتوحة وزوجة كثيرة الشجب والاستنكار أثقلت كاهله ولم يعد يجد فترة للتنفس والمتعة.
تذكر كيف اشترى يوما صحنا للاستمتاع بالقنوات الفضائية في بيته لكنه اصطدم بالابن الأكبر الذي لا يتزحزح عن مشاهدة الجزيرة الرياضية، والبنت التي تتشاجر دائما مع إخوتها لأنها تحب الأفلام المكسيكية الفارغة، والزوجة التي تريد وبكل أنانية مشاهدة الأفلام المصرية، فقسم بينهم اليوم ولم يترك لنفسه ولو دقائق للاستمتاع لكثرة الطلب وقلة الوقت.
وضع يده على رأس مخلوقه وهو يصافح ثنايا الجسد بلا روح وينشد بداخله آهات الألم على أيامه الجافة التي راحت دون نسيم يورق شجرتها من الحب والوصال. أمعن النظر في قطعة الخشب الممددة وهو يفكر في إتمام مهمته الفنية بتلوين الملامح ولكن بألوان جذابة قريبة من الواقع. أخرج من درج المكتب صورا مرتبة بعناية، ساعده في أخذها صاحب مقهى الشبكة العنكبوتية الذي كان يتعامل معه في نحث الديكورات.
وضع الصور على الأرض وأخذ الفرشاة والألوان وانهمك في العمل. يداه تشتغلان وكأنهما يسيران أركسترا لاستخراج سنفونية من الألوان لا نظير لها. ذهنه يعكس ما يرى في الصور ويرسل الأوامر للأنامل تخط على الجسد الخشبي أبهاها وأحسنها.
عندما انتهى من العمل، جلس ينظر إلى حسن وبهاء ما صنع. عينان بلون البحر لكي يبحر في جمالهما الفتان إلى عالم لم يكن له الوقت في الحلم به. أنف مستقيم لكي ينسى أنف امرأته الكبير الذي يتسبب في كوابيس ليله بالزفير. شفتان رشيقتان لكي تبعثا فيه الروح من جديد. أسنان وكأنها برد، مرتبة بعناية فائقة لكي تمنحه الإحساس بالرضا وتزين فترة هروبه من أسنان زوجته المتهالكة بفعل عوامل التعرية. خدان وكأنهما الورد بعينه لكي ينغمس في سبات اللحظة الجميلة التي طالما حن إليها. أما الجسد برمته فقد كان أنثويا يشبه تلك الراقصة الأمريكية التي تذهل مشاهديها برشاقتها أو تلك المغنية اللبنانية التي تذهب بلب الرجال عند رقصها بأنوثة عذبة يتمنى الناظر إليها لو كانت لعبته. أخذ الباروكة الشقراء ووضعها على رأس التمثال وصنع لها تسريحة تشبه تسريحة الممثلة الهندية التي كان من أشد المعجبين بها في زمانه القديم.
هل يترك إبداعه عاريا؟ لم تفته فكرة إلباس جسده الخشبي، ففتح درجا آخر كان يضم مغلفات من أقمشة ذات ألوان زاهية كم تمنى أن تكون لزوجته عوض الأقمشة التي تفوح منها رائحة البصل والثوم، والخمار الذي يلف ذلك الشعر الأسود كسواد أيامه الغير المهذب. ألبس التمثال قماشا قماشا وكأنه يحضر عروسا لحفلة الزفاف حتى صار أمامه جسدا لا ينقصه إلا الروح. من رآه لا يميز بينه وبين الحقيقة.
فرح المختار بمنجزه فرحا كبيرا وراح يبحث عن اسم لعروسه. الاسم لا بد أن يكون من الأسماء المعبرة. فتح كتاب الأسماء وعينيه تركزان على جملة من الأسماء الجميلة لكنها لم تعجبه. أطلق العنان لذاكرته وراح يجول في مشاهد ازدحمت في مخيلته. تذكر أستاذ اللغة الفرنسية الذي أحبه كثيرا وتذكر معه ملحمة طروادة، فقرر تسمية عروسه " هيلينا" حتى ينسى اسم زوجته الذي بات شبحا يطارده في كل مكان.
خيم الصمت في الورشة تأهبا لفترة من الرومانسية بين جسد لا روح له وسلالة بشرية تمتلك الإحساس. كل ما أراده المختار هو امرأة لا تعكر صفوه بصوتها المتعالي في كل لحظة، امرأة لا يشمئز من رائحة العرق الممزوج بتوابل المطبخ التي تفوح منها، امرأة لا تؤاخذه بالغدو والآصال باحثة عن أسباب لعزف أنغام البغض والتنافر، امرأة ذات إحساس رهيف ينسيه تعب يومه بقلة الكلام وكثرة المحبة والانسجام. فقرر أن تكون محبوبته هي "هيلينا" وأم أولاده هي مباركة.وأن ينظم الوقت بالعدل حتى لا يجور على إحداهما. لمباركة فترة عند عودته إلى البيت وثلثا ماله، ول"هيلينا" ثلثا وقته وجزء بسيط من ماله. هكذا سيرضي الروح في جسد ممل وممسوخ، وجسد فيه صفات الكمال والجمال لكنه بلا روح.