الرحمانية. أجرى الحوار القاص المغربي عبد الغفور خوى
اسم في الإبداع شهير ، في الأخلاق قل له النظير، له في السرد باع طويل، وفي الشعر والنقد كلام سهل لين أسيل، سقياه زلال الشعر، سكناه ظلال النثر، أنامله على الكمان قصيدة أنّى وجهتها دعتك إلى مسها، وعلى العود أنشودة كيف ما قلّبتها دعت إلى نفسها.
يسعد جريدة الرحمانية أن تقدم لقرائها المبدع المتعدد المواهب الأستاذ حميد ركاطة.
_ في البداية نرحب بك ضيفا عزيزا على منبر جريدة الرحمانية وحبدا لو حدتث قراء هذا المنبر الإعلامي عن حميد القاص، الفنان، الناقد .كيف كانت البدايات ؟
بداية أشكر جريدة الرحمانية على إتاحتها الفرصة لي من خلال هذا الحوار للتعبير عن بعض أرائي وعن تجربتي المتواضعة إزاء بعض القضايا الخاصة بالقصة القصيرة والقصة القصيرة جدا بالمغرب .
عندما يطرح علي هذا السؤال أجدني في كثير من الأحيان محرجا من الحديث عن الذات لأنني ألفت الحديث عن الآخرين من خلال أعمالهم ، وإبداعاتهم وتأثيرهم في المشهد الثقافي المغربي. الإجابة عن سؤال الحديث عن نفسي قد لا أستطيع الإجابة عنه – لا تزكوا أنفسكم – لكن يمكن أن أسلط قليلا من الضوء على محطات من حياتي ربما شكلت منعرجا أو تحولا ما من مجال إبداعي لآخر ..وهو أمر جاء عرضا وفي ظروف وفق إكراهات لا يسمح المجال لذكرها في هذا الحوار لأنها تربط بالسيرة الذاتية التي يجب أن يكون فيها نوعا من الضبط والمصداقية والإضافة لهذا النوع من الكتابة .
بالفعل اعتنقت الفن ( العزف على ألتي العود والكمان منذ الصغر كما أنني درست في العهد الموسيقي بمكناس في ثمانينيات القرن الماضي / كما زاولت المسرح كممثل وعازف ، وكاتب ومخرج فيما بعد ..وهي الفترة التي كتبت فيها الشعر وكنت أتمنى أن أصبح شاعرا نظرا لما كانت لأشعار نزار قباني ومحمود درويش ، وأحمد مطر ، وأحمد قعبور ولأغاني محمد عبد الوهاب وأم كلثوم ، وفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ من تأثير دون أن ننسى أغاني المجموعات الموسيقية الشعبية ( ناس الغيوان جيل جيلالة / مسناوة / المشاهب والسهام …) من تأثير في تكوني كثيرا . ..من الأشياء التي ظلت طي الكتمان هي محاولاتي الأولى في التلحين ، وكنت حينها أشتغل بالجنوب المغربي بمنطقة زاكوزة نواحي تالوين .بتارودانت وهي محاولات منها ما هم من أشعاري ومنها ما هو من أشعار غيري وهي محاولات جاءت بالصدفة ونتيجة لظروف فرضتها الفترة والفراغ القاتل الذي كنا نعانيه كمدرسين بالجبل ..كنا نحيي أمسيات فنية حميمية مع مجموعة من الأصدقاء الذي يربطنا وإياهم صداقات وحرقة الاغتراب والانتماء لنفس الوظيفة وللأسف التسجيلات التي كنت أحتفظ بها ضاعت لكن الألحان لا تزال تحضرني لمجموعة من القصائد ” لا بكي فراقي / أحن لذكراك / الشعب المقاوم / ثلاثية ….عودة النورس ….ومن هذا المنبر أوجه التحية للأساتذة : حسن براشل ، والادريسي محمد ، وحيد أركيك …
دموع فراشة باكورتك القصصية ، كيف كان تجاوب القراء والنقاد معها ؟
دموع فراشة في الواقع لم تكن باكورة أعمالي ، لكنها كانت باكورة النشر ، بحيث سبقتها رواية ” زغاريد تكسر صمت الليل ” التي نشرت فصولا منها افتراضيا بالعديد من المواقع ، وترصد واقعا من الحياة الجنوبية قبيل الاستقلال بقليل ، وامتدادها زمنيا كان حتى حدود الستينيات ..وأنا بصدد تنقيحها ربما قد ترى النور ورقيا .
بخصوص مجموعتي دموع فراشة فقد حظيت بمواكبة نقدية جيدة وهي دراسات فتحت عيني على أشياء كثيرة جعلتني أفكر جديدا في الاشتغال عليها في عمل لا حق ، كما تناولها نقاد من مختلف الأجيال والاهتمامات وحققت نجاحا لم أكن أتوقعه وبالمناسبة أتوجه بالشكر للأستاذ عبد الله المتقي الذي كان قدم لها بكلمة مؤثرة وصادقة ،كما تجاوب معها الكثير من القراء وكان حفل توقيعها بخنيفرة قد شهد حضورا غفيرا ، وبيعت منها نسخ عديدة ..كما تم تكريمي في المهرجان الوطني الأول للقصة القصيرة جدا بخنيفرة وخصص لها محورا خاصا في جلسة نقدية حضرها كتاب ونقاد مغاربة كما حضيت بدراسات من خارج المغرب وأتوجه بالشكر لكل من قاربها أو قرأها .
_ بما أنكم تكتبون القصة القصيرة جدا ، وبالتالي تواكبون منجزها العربي والمغربي على السواء ، ماذا تتوقع للكتابة في هذا الجنس هل لديكم مشروعا محددا حولها ؟
القصة القصيرة جدا اليوم وضعت عجلاتها على سكة الإبداع العربي ، وأصبح لها وجود فعلي تجلى من خلال العديد من الإصدارات التي خرجت للسوق وأغلبها بجودة عالية ، وقد بدا هذا لي جليا من خلال تتبعي لمنجزها مغربيا بحيث سيصدر لي قريبا ” الجزء الأول من كتاب ” القصة القصيرة جدا قراءات في متون مغربية ” عن وزارة الثقافة المغربية وسيليها الجزء الثاني ” القصة القصيرة جدا بصيغة المؤنث ” كذلك ، وقد انتظرا طويلا برفوف وزارة الثقافة فقد مضى على العقد الموقع مع الوزارة ثلاث سنوات ” وسيرى الجزء الأول خلال الأشهر القادمة . وهذا المشروع واصلت الاشتغال فيه وقد أنهيت جزأين آخرين “ القصة القصيرة جدا بالمغرب من التكسير الأجناسي إلى التوظيف المغاير “والجزء الرابع ” حول التنويع الأسلوبي والتوظيف الجمالي ” . كما اشتغلت على القصة القصيرة جدا بالسعودية من خلال خمسة نماذج ” طاهر الزراعي ، شيمة الشمري ، أحمد حسين عسيري ، مريم الحسن ، وفهد العتيق ..” وهو كتاب جاهز منذ سنوات ..وأنا اليوم بصدد الاشتغال على القصة القصيرة جدا العربي من خلال نماذج مختارة أنجزت فيها بعض الفصول وأنتظر توصلي ببعض المجاميع لإتمام الكتاب .
وقد برز من هذا الاشتغال أن الكتابة في هذا الجنس أصبحت اليوم تعرف انتشارا كبيرا ومتابعة كبيرا من طرف القراء لكن المواكبة النقدية لحد الآن غير مرضية ..فالنقد يعجز عن مواكبة سيل النشر الذي يرتفع سنة بعد أخرى عربيا ..وهو ما يبرز المكانة التي أصبحت تحتلها القصة القصيرة جدا .
_بخصوص قصصك القصيرة جدا كيف تهندس فضاءها الصغير وتحافظ على رشاقة بنيتها الضامرة ؟
أريد أن أشير في البداية أن الكتابة لا تأتي من فراغ ، أم من التقوقع والاقتصار على مجال معرفي واحد ، كاتب القصة القصيرة جدا مطالبة بالقراءة والاستفادة من مشارب شتى ، والاضطلاع على المنجز الأدبي في شموليته ، شعرا ومسرحا وراوية ، وعلى التشكيل والموسيقى وفنون جديرة بأن تغني مخيلته وتخصبها ، الاعتماد على الذاكرة فقط في الكتابة قد يجعلها منحصرة في اجترار سيرة ذاتية أو قصصية تمتح من حقائق التخييل الذاتي ، انفتاح الكاتب على حقول معرفية مختلفة كالفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع ، سيثري قصصه بالكثير من النفحات ويبصمها بروح جديدة واليوم أتفاجأ بكونها تمتح من علم التشريح والطب ، ( قصص هاشم عاصم الصفار : رقصة التنين / وشريف عابدين : تلك الحياة ..) وهما كاتبان اشتغلا في مجموعتيهما على نقل تفاصيل وحيثيات خاصة بمجال اشتغالهما وهذا جميل جدا ، فهندسة القصة لا يفرضها الكاتب بل الموضوع ، طول القصة وقصرها مرتبط بمدى القدرة على الاختزال دون المساس بالحبكة ، وبناء القصة وشخوصها ، أي بمقوماتها كجنس أدبي أولا ، فالإسراف في التنحيف قد يودي إلى هزال القصة وفقد نضارتها وجمالها ..الغلو في التنحيف يحول القصة إلى مومياء ، لابد من الحفاظ على لحمة الحكاية ووحدة الموضوع ، كما أنة الاشتغال على الفضاء البصري هو ضرورة بل ونوع من الجمالية تفرضها القصة ذاتها ، واليوم لم تعد القصة تكتب كنصوص متفرقة ومعزولة عن بعضها البعض بل كوحدة وموضوع مترابط ” أي بالمجموعة ” ولدينا مجاميع حققت نجاحا بهذا الخصوص محمد سعيد الريحاني ، واسماعيل البويحياوي ، وهي رؤية تعبر عن منظور أصحابها للقصة القصيرة جدا . في حين أن الكتاب القصصي المتنوع هو الآخر له فرادته في تقديم منظور الكاتب وتطرقه لمواضيع شتى تترك للناقد المجال الفسيح للاشتغال ، ويجدها القارئ أقرب إلى نفسه وهي محبوبة كثيرا وهو النوع السائد عربيا اليوم
_كنا ننتظر إصدارا نقديا حول القصة القصيرة جدا فإذا بك تفاجئنا بكتاب نقدي حول أعمال الشاعر الكبير محمد علي الرباوي ؟ ما هي حيثيات هذا التحول ؟
أريد أن أتوجه بالشكر إلى أخي محمد علي الرباوي الذي كان له الفضل الكبير في إخراج هذا الكتاب للوجود ، فأعمال الرباوي تستحق الوقوف عندها كثيرا وهي ثرية سواء للباحث أو للقارئ وقد وجدت نفسي منحازا للشعر كثيرا ، فأشعار الرباوي هي في حد ذاتها قصص كثيرا يمتزج فيها الشعر بالسرد والقصة والمسرح ، وقد استفدت كثيرا من تأليفي لذلك الكتاب ، على الكاتب اليوم الانفتاح على حقول معرفية أخرى كيف يدرك أن العالم يمكن أن تسعه قصصا قصيرة جدا وأنه مختزل أحيانا في قطرة فوق حجرة صماء …
أقول أن هناك تكامل في تناول حقول معرفية أخرى فالقص القصير جدا أكثر تأثرا بالشعر في بنائه واشتغاله على الصور ، ولن يحقق شاعريته دون ذلك ، بالإضافة إلى الاعتماد على حركة القصة القصيرة كتقنية ، وهذا المزج هو الذي يخلق شعرية القص القصير جدا ، لذا فالشعراء الذين ارتحلوا إلى اكتابة القصة القصيرة جدا هم الأقدر في نظري على النجاح في هذا التوفيق
_ماهي الإشكالات التي تطرحها السرود القصيرة، خصوصا جنس ق ق ج اليوم ؟
ما قد يثير الدهشة اليوم هو استسهال كتابة القصة القصيرة جدا ، وهذا أمر غريب ، نعم أنا متفق على إن القصة بإمكانها الاستفادة من كل الأجناس الأخرى ، وأنها قصة زئبقية ومتمردة ، ,ووووو، لكنها ليست سهلة المراس أو المراودة ، القصة فرس جامحة ، تتطلب دراية وإلمام ببعض التقنيات ، من جهة وبخصائص ومقومات ، فهيكل القصة على الأقل بتوفره تتوفر شروط حياة القصة ، تكسير مقوماتها هو ضرب لهويتها ووأدها في مهدها ، فأحيانا تقترب من النكثة دون أن تتماهى معها ومن القصيدة ” الهايكو “دون أن تكون كذلك ومن الشذرة دون أتسقط في تأمل فلسفي عميق ، ومن أشكال أحرى أدبية فهي تعمل على تكسير الحدود بين الأجناس وتسترق خصائص هذا وذاك دون أن ترتدي قبعة جهة ما ، فالقصة كالغجرية ترفض القيود ، والانضباط ، للمتعارف عليه لكنها بالرغم من ذلك يجعل منها رفضها وتمردها تكتسب هوية ما من شكلها ، وخصوصيتها ، وكثافتها ، وإضمارها ، وحذفها ، وبياضها وتمنعها ……. فهي ساخرة بامتياز وكانها جاءت لتبرز عيوبنا الخفية ، واستهتارنا الكبير ..إنها ترصد لحظات منفلتة من واقع هارب على الدوام ..لحظات لا ننتبه إليها ، تظل مهملة في الرواية ، رغم اعتمادها على التفاصيل ، وفي القصة القصيرة كذلك ، إنها تختزل المسافة سواء على البياض أو الحدث ، أو الشخوص ، وتتخلص من زوائدها التي تجعلها شبيهة بأجناس أخرى لتخلق هويتها وتفرض مزاجها العكر دوما ..إنها القصة المفكر فيها على الدوام وغير المتحققة فعليا وواقعيا حتى الآن فكل النصوص المنجزة لا تستطيع أن تتوفر على كل مقومات قصة قصيرة جدا ولكن بعضا من خصائصها أو مقوماتها .. فصغر الحجم لا يعني دائما أنها قصيرة جدا ، القصة القصيرة جدا عالم معقد ومتشابك ، يتطلب الحب والصدق أثناء الكتابة بأفق ورؤية ، ومشروع لذى صاحبها ،
_ وماذا يعني لك هذا الجنس؟ وكيف تبني قصتك؟
القصة القصيرة جدا تعني لي الكثير ، وستظل كذلك ، فهي تمشي معي في الطريق ، وتكون حاضرة معي في كل مكان ، وتنام بين جوارحي دوما ..فهي العالم الذي ابتلعني ولم أعرف كيف أخرج منه ، كلما حاولت الهرب أجدني ابحث ع مبررات للبقاء ..فهي سجاني ، وسجني اليوم .
_الكتابة بالنسبة إليك تأليفا أم مشروعا جماليا وفنيا أم ماذا ؟
الكتابة هي نمط حياة وعيش ، وسلوك ، هي كل تلك الأشياء مجتمعة ، لكنها وعي بالذات ونظرة إلى الأفق ورغبة في الانعتاق والتحرر من عنف عالم يغتال الجميل فينا ، الكتابة هي الرصاصة التي ترفض التشظي بداخلنا كقصصنا القصيرة جدا ، لأننا نحمل عذاباتها وآلامها إلى الأبد ، حبرها في دمائنا ، يجري ، كنهر أسطوري ، لعنة ترفض الزوال حتى الموت …