الفصل الأول : رهينة الماضي
وانبثق الفجر في جوف ليلة من صميم الشتاء ..
كانت فيحاء قد قضت ليلة مسهدة محمومة ، ثم استغرقت قبل الصبح
فيما يشبه الإغماء و ما هي إلا لحظات حتى استيقظت منهكة القوى،
هلعة على صفير أعاصير زوبعة ثائرة من شتات ذكراياتها
فيما كانت معتصمة بركن غرفتها المظلمة طوال أيام العدة ..
فتحت فمها و كأنها تريد الكلام، ولكن لم ينبعث من بين شفتيها
سوى حشرجة خشنة و كأنها تقضي نحبها .. صرخت صرختها
الإعتيادية و عيناها مسمرتان في سقف غرفتها لا تحركـ ساكنا ..
اصطكت أسنانها فانقبضت عضلات جسمها النحيف ثم سقطت فجأة
على سريرها و ظلت على ذا الحال .. ثم أجهشت بالبكاء ما أن مدت
يدها لتجد وسادته خالية .
عز على فكرها المكدود و بالها الكسيف أن تخلص إلى تفسير مقنع
لعله يشفع وحدتها و تأزم حالتها الصحية بين تعاطيها للمهدئات
و فقدان ذاكرتها المشلولة إثر اغتيال خطيبها في حادث مروع ،
كما عجز عليها إدراكـ واقعها المرير،
بعدما بدت لها الحياة في غيابه موتا رحيما ..
مدت يدها ثانية لتعانق الوسادة الخالية بعنف ، ريثما يخلص ذهنها
بفكرة من شأنها أن تعقلها ،
لكن هيهات ..فجوف تفكيرها بات حقلا خصبا مشبعا بالهواجس و الأوهام،
مليئا بأشواكـ الذكرى تخزها في بؤس أليم كلما خطرت صورته على بالها .
و بينما كان صبيب وحدتها في تفاقم ، اجتاحها إحساس متعب بالإختناق
و الحنين لأيام خلت، كانت تجمع بينهما على مدار الماضي الجميل ..
فاقت ريبتها بعدما نالت شظايا اليأس من عزيمتها و تفجرت منابعه
الشقية داخلها كما عجز فكرها المشلول عن استيعاب أزمتها العسيرة
و إدراكـ منغصات حياتها المرة، لذلكـ لم تعقل رغم إجهادها العقيم في
وضعيتها الراهنة إلا اليسير ،
لاسيما وقد أغتيل حبيبها بعدما اتفقا على مشروع زواجهما بيومين فقط.
استنهضت همتها وهنا و هزالا ، ثم قصدت الحمام و بينما هي في شرود
عميق، إذا بها ترفع عينيها المجهضتين لترمق شبح أنثى تشبهها ،
بعدما بلغت مبلغ الأحياء الأموات ، حيث بهت لونها و ذبلت ملامح أنوثتها
المشوهة بمجموعة من الخدوش المروعة على خدودها المضمرة،
رفعت يديها مرتجفة جراء وقع الصدمة الموجعة على نفسيتها لتداعب
ما تبقى من خصلات شعرها بعدما تساقط معظمه إثر نوباتها العصبية و الهستيرية ..
و بينما هي في ارتباكـ تتحسس ملامحها الباهتة ، صعدت منها آهة حرٌى
موجعة بعمق الفناء المتوغل بأعماقها، ثم صرخت صرختها ثانية ،
معلنة عن بداية يوم متعب ..
فما كانت الصرخة سوى نديرا لأنثى كتب لها الضياع،
فُتح باب الغرفة أخيرا على إثر ذلكـ الصوت الصاخب و إذا بإحدى الممرضات
تدخل برفق ، تحثها على مرافقتها للغرفة المجاورة بكل حنان دون مجابهة
منها أو اعتراض ، لئلا يكون عقابها عسيرا كما الليلة الفارطة.
-فقد حان موعد جلستها الكهربائية-
ركعت فيحاء جاثية على ركبتيها الهزيلتين و هي تتوسل إلى الممرضة
متى سيعود لنقيم حفل زفافنا ؟
أم أنه ما عاد يحبني كالسابق ؟
أطرقت الممرضة برأسها و استطردت :
كفاكـ حزنا عزيزتي، بل إنه هنا،
صدقيني هذه المرة..
هيا تهيأي فهو بانتظاركـ خارجا
أسرعي ، فلا ينبغي أن يظل بالإنتظار مطولا
ابتسمت المسكينة و كلها لهفة بعدما حسبت أن العناية الإلهية
قد ساقته إليها ليخلصها من هذا الجحيم …
يتبع