يوم مطير، زخاته أنعشت ما تحت قشات جافة، أفئدة انتفضت نبضاتها معلنة تنفس صبح جديد، وتربة شقت عن صدرها أزرار صفحة لرسم أخاديد إيذانا بالسماح لبلل بالمرور لإرواء عطش دام لسنوات، علها تستعيد حياة مشرقة ماضية وأذرع شمرت عن سواعدها ترقبا لإعطاء انطلاق عملية تويزة، ونساء تعالت زغاريدهن بمقدم ضيف عزيز اختار لنفسه النأي لسنوات، انتقاما من البشر والشجر والحجر..
يوم ليس كسائر الأيام، إنه يوم السوق الأسبوعي، يوم التجمع واللقاء والتسوق والتبضع، يوم قضاء الحاجات والاحتياجات..يقصده سكان الدواوير زرافات وأفرادا، راكبين وراجلين..ترصدهم الأعين وهم منحدر ون من مسارب بين التلال، وسائرون بين السهول والهضاب كمحاربين موزعين لإيهام عدو مرتقب بقلة عددهم..
إنه بالجملة يوم متفرد ومتميز وذو خصوصيات، فهم يعتبرونه يوم غير عاد، باعتباره يوم اقتناء الزاد، وبيع وشراء المواشي في المزاد، يوم الأعراس والأفراح..يوم تسجيل أطفال في سن التمدرس، يوم التلقيح ضد الأمراض، يوم الحملات..والإعلانات، يوم كتابة عقود القران وعقود..
معلم الدوار حار في أمره، بعد أن تدارك أن الوقت قد خانه لالتحاقه بالزمرة القاصدة السوق. والطقس الممطر، والجو المكفهر، ساهما في إشاعة الدجى وتمطيطه..وانعدام ضجيج وصخب التلاميذ المتعود عليه كل صباح باعتباره يوم آخر الأسبوع / السوق. كل ذلك جعله يخلف الموعد في اقتناص من يرافقه للسوق من أهل الدوار. ضرب أخماس بأسداس، وأطلق العنان لبصره للقيام بمسح المنطقة لرصد شيئا ما يدب، للأسف . لم تلتقط آلتاه البصرية شيء يذكر، عدا سماعه لزخات مطرية ممزوجة بهدير محرك ينبعث من بعيد، نتج عنه سيمفونية إيقاعية تنم عن لحن جميل لأغنية مرتقبة. أصاخ السمع من جديد، وعلت محياه بسمة انفراج تطبعها نفحة فرح، عله استشعر إقبال من ينقله إلى الســوق.
الأمطار تعزف إيقاعا صامتا بفعل انفتاح التربة لأحضانها، منتشية بالرواء، وحفيف رياح باردة تنفثها جهة الشرق تجعل كل ما يدب يتقوقع حول نفسه منشدا الدفء، وصوت محرك يرتفع هديره بنبي بمقدم آلة ميكانيكية تحصد الأميال..ما أجمل وجودك بمنطقة عذراء تختبر فيها حواسك ! لتعيد ترتيب أوراق انتمائك للإنسانية، وتعيد قراءة فلسفة الوجود التي أسالت مداد أقلام كبار المفكرين والفلاسفة، القدماء منهم والمحدثون، العرب منهم والعجم، المسلمين منهم والمسيحيين..هي فعلا لحظة للتأمل. تأمل الذات، تأمل الوجود، تأمل الكون..فمقولة الفيلسوف ديكارت " أنا أفكر إذن أنا موجود" أكيد أصدرها في وضعية مشابهة لوضعيتي، حيث الإحساس بقيمة كل شيء، والبحث عن مكامنه، وبالتالي الوجود في وضعية- مشكلة تخول طرح أسئلة، والأسئلة تتطلب أجوية، وفي دينامية طرح الأسئلة والبحث عن الأجوبة، بكمن الإحساس بالوجود والتواجد..وأنا مسترسل في فلسفة التفلسف ، توقفت شاحنة بمجرد ملمحي بمحاذاة كدية، بعدما لوحت لها من بعيد، هرولت اتجاهها وزخات المطر تتوالى في السقوط..توجهت صوب نافذة السائق، باغتني بالتحية قائلا: السلام عليكم آلفقيه ! غادي للسوق اولا ؟. رددت عليه التحية بأحسن منها، وأجبته بنعم. لاح جهة يمينه بنظرة حيث كانت تجلس امرأتان، معبرا بصمت عن موقف حرج.فككت حرجه قبل أن يرتد طرفه. سأصعد ظهر الشاحنة إن كان ممكنا. انفكت سريرته بابتسامة ثعلبية قائلا :" آلفقيه راه الفوك كاين ثور غادي نبيعو فالسوق" أجبته : لا يهم، سأرافق الثور، إن قبلت أنت.
ضحك وقال: توكل على الله آ لفقيه !
صعدت ظهر الشاحنة..وكلي أمل في الوصول إلى السوق، والتواجد به لأتسوق الزاد، وأتسوق الأخبار ، وألتقي الرفاق والأصدقاء والزملاء..الثور استفزه وجودي، اقتحمت عليه خلوته،رفع رأسه متطلعا إلى هذه الخلقة الغريبة التي تختلف عنه، استنشق واستنثر، خفض رأسه، إذاك استرجعت شريط محاربة الثيران الذي تعرفه حلبات الإسبان، وذلك عندما يخفض الثور رأسه إيذانا ببقر بطن من البطون..استبقت الهجوم بهجوم، فأمسكت بقرنيه. زلت قدمي في روثه، ضحك وقهقه وشخر، لم أعره اهتماما، بل ازددت تمسكا بقرنيه تجنبا للغدر، بعدها انتصبت قائما..وأنا في حوار معه بالعينين، ازدادت وتيرة التساقطات المطرية، مما جعل الشاحنة تمارس عملية رسم الثمانية بعجلاتها في الطين، مما صعب مأمورية السائق، وأنا والثور نرقص رقصة الباليه تزحلق يمنة ويسرة بفعل مزج الروث بالماء، عند كل دارة وكل منعرج.. وتمسكي بقرني الثور أنساني كل معيقات الرحلة.
كم قضينا من وقت طويل للوصول إلى السوق، معظمه تبدد في الخروج من الدوار إلى الطريق المعبدة. ولما وصلنا السوق وجدناه فد انفـــــــــــــــــــض.!