السيرة الذاتية
سأحدثكم عن مسيرتي في الرسم ، و كأني أقص عليكم عطلتي الأخيرة .
أنا لا أتجاهل أن الخطاب ضروري لفهم الخطوة الفنية ، و لا أنكره . لكنه يفقد الحقيقة أحيانا هويتها.
و هوايتي في حاجة لكلمات بسيطة ، لأنها تعكس صورة البحر و الدفء ، ووجه كل واحد.
إن نغمة المشاهدة ستمكنكم من سماعي عن قرب ، و سنتقاسم سويا هوية كانت مفقودة هلم بنا إذن ........
تصوروا معي أخر يوم على شاطئ في المغرب ، و خطانا أثقلها الرمل ... بعيدا ، المنزل بمدينة مكناس أبيض يتموضع بين دور أصحابها يحبونني .
حين أصل المنزل مساءا ن يكون جسدي المشبع بأشعة الشمس قد أنهكه المسير ... عندها أحبذ شرب الشاي على السطح ألأجوري الممتد ، فأحس بطعم الراحة و لذة السكينة ، و أتنفس نسمات الهواء العليل.
كان عمري ثمان سنوات حين أنجزت أول عمل بدقة : "فنجان قهوة و بخار يتسلل منه" ، و أخرى لأحد ملوك مملكتنا.
ذلك ما كنت أرسمـه دائما....و ما يثيـر دهشتي موقـف عائلتي من الرسم بقولهـم أنـه حـرام ،وبطريقتي كنت أعبر عن أفكاري بصوت عال....
حيـن بلغت سـن الثانية عشرة ، بدأت الرسم الزيتي ، و لم أكن قبلها قد رسمت سوى بالماء لوحات خشبية ، و قد أتعبني هذا النموذج لأني كنت مضطرا لإعادة طبقـات مـن طلاء الألـوان المائية إلى لا نهاية للحصول على البريق المرجو ، لم أكن أعلـم شيئا عن الطلاء الأول الذي يمنع امتصاص الخشب للماء و يجعله رطبا.
و لم أكن أطلب مساعدة أحد من أفراد عائلتي لأنهم يعلمون أني أكره الإزعاج في و حدتي الإبداعية ...أصر على ذلك .... و هكـذا و بعـد بضع سنوات من الرسم بهذا الشكل ، تعودت عليه ، و في السن الخامسة عشـرة أهـداني خالي تشيعا منه عدة الرسم متمثلة في قماش أبيض و صباغة زيتية و عدة فرشات كما زودني بمعلومات عن فن الرسم ، و قوالب الألوان كتب عليها أسماء أشهر الرسامين أثارت مخيلتي و دفعني إلى الحلم : أخضر ، أزرق، أصفر و غيرها .
كانت تلك متعتي الأولى ، و أخذني تيار الإبداع ....خالي فنان عظيم و لكنه تخلى عنه ليصبح مهندسا معماريا ، أكن له كامل الاحترام.
لم أكن أنام قبل منتصف الليل أو الساعة الواحدة صباحا، و كانت و والدتي لا تسمح لي بالسهر.
كنت أتحمس حين أسطر خطوطا مستقيمة و أنجح في مزج الألوان ... لم أكن أرسم سوى أجساد نساء عاريات ، أو في وضعيات رومنطيقية على لحم اللوحة ، كان كل شيء يبدو لي تافها أمام الصمت الليلي ، و أمام نفسي ...
و في الصباح أتوجه إلى المعهد أستمتع باللوحات التي تنجز من قبل الطلاب و التقنيات التي يتلقونها ، لكن هذه المتعة سرعان ما تنقلب إلى ضيق لأنني لم أكن من طلبة المعهد و مع هذا كانت تتوهج في داخلي شعلة السعادة بالرسم طيلة الليل...و ما عدا ذلك لم يكن سوى ضباب ...
كنت مجتهدا في المدرسة و لكن كان الرسم طاغيا على ذهني ، حينئذ فضلت الفن على تلقي دروسي لأني لم أكن مقتنعا بما يدرس الي لقد كنت طفلا ، و في المجتمع لا علاقة لي بأقراني و لا باللعب ككل الذين هم في مثل سني....
في تلك الفترة اشتريت منجدا و اكتشفت في إحدى صفحاته لوحات غيرت كل حياتي .
" لاجوكوند" و لا أدري لم أسرتني هذه اللوحة إلى حد أني نسخت عددا منها ...و منذ تلك الفترة ، حاولت إحياء "ليوناردو" و " دالي" في لوحاته الى حد العبادة ...من الإشارة غير الواضحة ، إلى الابتسامات الغامضة ، و سوريالية دالي ، هكذا تعلمت الرسم حقا ... و رغم أني كنت أفقد حماسا ، لم أفشي سري و كنت غير راض عن العالم ...فلا شيء يبدو لي سريعا ...أرى كل شيء رثا و قديما . كنت أريد مواطن جديدة و كلمات طلائعية ، و حبا غير مسبوق ... كنت أنتظر الاستثناء...
لم أكن أمشي بل أركض ... لم أكن أكل بل ألتهم ...كنت واثقا من السفر ... نفذ صبري .
كنت أعيش و لا احد يفهمني اهرب من الأصدقاء الذين هم في مثل سني ن و الذين لا يمكنهم أن يقدموا لي شيئا مما تمنحني إياه هوايتي الفنية.
"ليوناردو" أشعل في عطشا للرسم " نزار" أروع الكلام و " دالي" حب الألوان ، و في نهاية اليوم حتى يغمى علي التعب ، قد يحدث أن أتذكر أني كتبت على قماش أو رسمت نصا.
كل شيء مرتبط يدفعني و يحمسني إلى المزيد من الرسم فأكون أسعد الناس.
الطقس جميل بالإمكان التنفس و الانطلاق ، السماء تلمع بأشعة الشمس التي ذهبت تزور عوالم أخرى ... هل تحبون المغرب؟ أنصحكم بذلك ، و إلا فيجب تقصير هذه الفسحة الافتراضية الصغيرة ...لست جادا ... لأنكم تحبون المغرب مثلما سأحدثكم عنه ، أملس مثل جبين طفل ، حارق مثل الحرارة التي يضيفها السهيلي ، فأنـا أرسم أيضا لأني ولدت هناك ، أنتم لا تدركون عنه التنزهات المسائية بين لحم مسافاته ، و رحـم مكناس الذي ولدت فيه ، و الحي الذي تعيش فيه أسرتي.
كنت أجري أمام والدتي ، فأختبئ في أي مكان ، و حين تقترب مني أخرج من مخبئي لأفاجئها ، ثم أعيد الكرة ...
كنت أمسك الورقة اللاصقة على الجدران الباردة و حتى الخفاش.
الهواء لطيف معطر بالأزهار الجافة ممزوج بالياسمـين الـمزروع على حافتي الطريـق ، أحاديث و ضحكـات ...
ضحكات دائمة ...في بيتنا المتواضع نضحك عاليا ، و تخفـي النساء أفـواههن بأكفهـن حياءا مصطنعـا ، كان ذلك يسعد الأبناء ، و يمنحهم شعورا بالمتعة و النشاط لكنني عكس كل الأطفال كنت خجولا و لا أ ستطيع مشاركتهم أو مجاراتهم فيما يفعلون ، و كنت أدرك أن ذلك لن يستمر ، كنت محقا في ذلك .
ألم أقل لكـم أن تعرفي على " دالي" في تلك الفتـرة سرعـان ما أبعدني عـن أحلامي لفترة زمنية ، فغيـرت أسلـوب رسمي تماما و تحولت إلى سوريالي ، ذلك كان خطأ في مرسمي ، كان كل شيء جاهزا تقريبا ، و الساعات الليلية توقيتها غير صحيح اليوم.
و في الثمانينات كان الفن الخيالي يمنحني دفعا جديدا ظهر قليلا مع السوريالية و قد تملكني لمدة ، و يمازحني حين يتغير خيالي.
و كما أن الأمور تسير دوما على طبيعتها ، فان أعماق ذاكرتي ، تعيد إلي ذكرى تعلقي بمطالعـة دواويـن الشعـر و خاصة نقش " نزار قباني" و الذي كان له مكانة خاصة عندي منذ سن الرابعة عشر، كنت حذرا و لذا أنغمس تماما في كلامه لرسم إحدى اللوحات ، رغم تأثري به لكني عرضت سنة 1989 لـوحات حبلى بالحب و الذكـاء مما أثـر في حياتي لحد الآن.
كم هو رائع أن تعيش عالما رومانسيا ... و شيئا فشيئا ، تأثر به إبداعي ، وجدت أن مغامرة التحليل النفسي الذي كانت تداعب فراشي أعادتني بكثير من السعادة إلى وجوه مشبعة واصفة لي الجنون ، و كل ما قد يخفيه الرسم ...
و بعد سنوات سئمت من الرسامين الذين يملأون رسومهم بآلاف التفاصيل ، تقلص إنتاجي لفترة ، و كرهت العمل من أجل العمل ، فأجابني تمثال طفل يمتطي صهوة حصان ، و لن أطيل عليكم في ذكر الأسباب ....
و كانت تلك الانطلاقة الحقيقية لمغامرة في علم النفس التحليلي ، لا يعرف خفاياها سوى أصدقائي.
فلقد حملني ذلك الحصان في سباق غريب و سلط الضوء على جزء من الماضي.
فلقد ولدت للمرة الثانية بالتجرد والقوة اللازمين للتحكم في الرسم فغيرت الأسلوب و التوقيع تماما و تجرأت على الإمضاء دون تردد.
استطعت أن أقول " أنا أرسم" و هذا يناسبني و صرت مكتفيا بما لدي، فأرسم كل ما أشعر به ، فيفهمه الناس و حتى بكائي كانوا يشاركونني فيه . أحاول أن اكشف عن جانب من الظل الذي يوجد في أعماق كل واحد منا حتى يلمع الضوء في ثوب اللوحـة ، ووحدتها الجمالية التي لا تخيف ، و التي تمكـن من فتـح العقـول الأكثر غموضا.
كل هذا تبوح لوحاتي التي ارسمها ...و لم أكن أدرك ذلك...
طفولتي تعيسة ، هادئة و عطرة هي خليط متناقض مثل المغرب .
لهذا البلد صور ...أحبها ...صورة أصدقائي و اخواتي العرب...ابتساماتهم و همومهم ، و عيونهم السوداء خلف الأبواب الزرقاء...
أنا ارسم الجميل و أطالب بالجمالية و الرمزي بما يسمح بطرح مواضيع صعبة ، بأقل ما يمكن من البساطة ...
فانا أصحوا ، و أحتقر، و أحيانا أحطم بعض شخصياتي.
فجرحي اللذيذ كبير ...و ربما يجب أن أشرك حدا ما.
في سنة 1999 و أنا في اسبانيا اكتشفتني الصحافة ... بفضل مشروع نظام من طرف معهد
حيث تم عرض لوحاتي ، و بمسابقة "الكرنفال" التي يتم فيها اختيار ملكة جمال باسبانيا لفئة الصغيرات ، تمكنت الفتاة التي زينتها من الحصول على الجائزة الثانية .
زرت معهد تطوان للفنون التشكيلية ، سئمت منها ، الكل يرى نفسه فنان ...فغادرتها لم أر شيئا فيها إلا الألوان ...
فانا ارغب في رسم لوحات كبيرة مثل " القارب و الحيوان و البحر" ، أحبذ هذا السـواد . و تهويـل الموضـوع و تمثـيل التأليـف ... هـذا الموت الجمالي ... الجسم خـارج الماء ، و الأخضر حولـه ، أخضر قاتم يميل إلى السواد يمتلكني أحيانا ...و أنا ارغب أيضا في تسجيل هذه الألوان في ذاكرتي .الإنسان مشى فوق القمر ، إذ يجب ألا أضيع الوقت.
غادرت إلى باريس سنة 2000 وجدت أخيرا ضالتي لما دخلت متحفها " اللوفر" و اقتربت من ملكة المتحف " لاجكوند" حيث رايتها و الزحام كثير ، كل أجناس العالم يرون هذه اللوحة و هي تتحدث معهم و تقول أنا أبدعني
" ليونالردو".
في يدي مذكرتي الصغيرة أرسم فيها كل ما يشد انتباهي و أنقش فيها كل شيء يتحرك ...
أمتلك كل شيء ... أتمنى أن أنام ، خذوا مذكرتي تماما مثلما كنت أضع لوحاتي حول فراشي قبل النوم و أنا صغير ... أكره الزائرين الذين يصورون لوحات حياتي ... أشعر كأني أغتصب ، فأدفع أولئك الهواة ، حتى يفشلون في التصوير.
باريس ضاعفت طاقتي ، فأنا أعرف ، و أبهر ، أتحدث عن هوايتي مع الأغبياء و الصعاليك ، كان كل واحد يحاول امتلاكي و لا أحد يخيفني.
فأنا ألهب بلساني السهرات الباريسية . و أحس أنني وسيم و أنني لص.
كنت أغني في المقاهي ، و أنـام في مداخل العمارات . و تلك كانت الحـياة الحقيقية و العـقاب الأكبر ، و حالات الاكتئاب الرائعة و السعادة القاتلة.
النظرات البطيئة في المترو و مثل ابتسامة مجهولة شبيهة بنشر كتابي الأول في الحياة مثل الانطلاق من الصفر...
هاأنا أقترب من الباب لم يبق لي سوى بعض الأمتار ... أتصور أنني أحدثكم عن المهم ، ها قد و صل الشاي بسرعة.
و لكن الوجه الأخر للديكور و الجرح إذا نما ستفهمون أنه للنبش في روحي أو في مراجعي لا أستطيع أن أرسم إلا أشخاصا غرباء أو مخلبا على الكتف أو حبلا قرب الرقبة لكن عند الحديث عن المغرب مهد طفولتي تهدأ فرشاتي ،
صحيح أني لم أكتشف كل شيء ، سأحدثكم عن الحدائق و القنابل و قطرات البحر ، و ربما كذلك عن الدجاجة التي تم ذبحها و العقرب في اليد و سيكون ذلك لاحقا في لوحات أخرى و رحلة أخرى في الحياة تبدأ اليوم.
أنصتوا فها هو المؤذن انه صوت المغرب
الرسام المغربي داني زوهير تقبلوا مروري
[right]