الوحدة و مجتمعات الفرقة
ختم الله تعالى رسالاته إلى الأمم ، بالدين الخاتم ، يوم بعث النبي الخاتم إلى الأمة الخاتمة. وقد هيأ الله تعالى لهذه الأمة من أسباب الوحدة، ما كان بيانا عن أفضليتها وشرفها على سائر الأمم قبلها.
ذكر الراغب الأصفهاني في "المفردات في غريب القرآن" (ص:23) أن "الأمة كل جماعة يجمعهم أمر ما، إما دين واحد ، أو زمان واحد ، أو مكان واحد" . وإذا كان لكل نبي أمة، فإن لفظ الأمة شامل لكل من جاء بعد البعثة وأدرك الرسالة، لأن الإسلام جــــب ما قبله زمنا و حكما. وبزغ عهد جديد فأفـّـل أمما مضت وخلا أمرها، وأخرج أمة وُلدت مع الرسالة. أمة ستكون أعْـلم الأمم و أقرأ الأمم، ولا عجب فهي أمة "اقرأ" . فنحن نعيش عصر الإسلام الذي نشر ولا يزال ينشر ظلاله على الأرض. فالناس جميعهم يدخلون تحت "أمة محمد" التي تطالهم زمنا وحكما، من البعثة إلى يوم القيامة، والتي يقف عليه السلام طالبا لها الشفاعة و هو يقول "يا رب أمتي يا رب أمتي"، وقال عنها" أمتي أمة مرحومة." فهي محفوظة من العذاب الذي كان يصيب الأمم السابقة، كالخسف والمسخ والمطر والريح ...... آمنة من ذلك بأمانين ذكرهما عليه السلام في حديث "أنزل الله أمانين لأمتي "، وتلا قوله تعالى في سورة الأنفال " وما كان الله ليُـعَذبهم وأنت فيهم وما كان الله مُـعَذبهم وهم يستغفرون " ثم قال :" فإذا مضيت تركت فيكم الاستغفار إلى يوم القيامة ". فما ينفك رجال آناء الليل وأطراف النهار قائمين لربهم يستغفرون، فالأمة محفوظة بأمان الاستغفار. أما الكوارث، من فيضانات و أوبئة وحروب وقحط.... فإنما هي بلاء من الله تعالى، وامتحان للمؤمن، وهي آية للكافر توقظه وتنبهه من غفلته. وقد حدث كثير منها في زمن السلف الصالح كطاعون عمواس و "عام الرمادة". والرحمة بذلك شاملة للناس جميعا؛ "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ". ومن هي هذه الأمة إن لم تكن هذه البشرية المنتشرة على أرجاء الأرض، وهذا الناس الهائج المائج في رحابها شرقا وغربا؛ وقد قال عليه السلام : "بعثت للناس كافة". فكل من وصلته الرسالة وسمع بالنبي، مذ بعث وإلى أن يرث الله الأرض، فهو من أمة محمد؛ لأن محمدا أرسل إلى العالمين، بل حتى الجن صرفت إليه واستمعوا القرآن، ثم ولوا إلى قومهم منذرين، فآمن من آمن و كفر من كفر، تماما كالناس. ثم إن الناس جميعهم سيسألون؛ المرسَلون والمرسَل إليهم. وقد وقف ابن قيم الجوزية في كتابه " الروح " وقفة لها مساس وثيق بموضوعنا، عند سؤال القبر هل يختص بالمسلم أم هو عام في حق المسلمين والكفار والمنافقين. فأثبت بالدليل أن ذلك عام على الجميع، وساق حـديثا طــويلا للبراء بن عازب نقرأ فــيه مــا يــــلي قال :" فإذا كان كافرا (أي الميت) فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان شديدا الانتهار .... فيقولان : من ربك؟ فيقول : هاه لا أدري . فيقولان : لا درْيت .فيقولان : ما هذا النبي الذي بعث فيكم؟ فيقول : سمعت الناس يقولون ذلك لا أدري ...".وفي هذا الكلام برهان على أن الناس جميعا من أمة هذا النبي المرسل، لأن زمانه يظلهم وأحكام ما جاء به تطالهم، والرحمة تشملهم منذ بعث إليهم.
وأنت إذا قلبت الأمر مليا، رأيت أن الأرض ومن عليها، على طولها وسعتها، يتمثل فيها المجتمع القرشي في بداية الدعوة وبناء الأمة. فكل القرشيين وصلتهم الدعوة، فكان منهم مواقف وردود متباينة، تمضي من الإيمان البسيط، إلى الجحود المطلق. من الذهول عنه، إلى العداء المستحكم والمحاربة العنيفة. وما نشهده اليوم يكاد لا يخرج عن هذا، وكأن ذلك المجتمع كان النواة الأولى للصراع الذي استمر واتسع باتساع أقطار الأمة، حتى عمت الدعوة الأرض كلها؛ فلا الشر والكفر انقطع، ولا الإيمان والخير توارى في ظلالها كليلا هزيلا. وإنما هي جدلية صاعدة نازلة، تقوى في جهة حينا، ثم ترتد دابرة، وترجح كفة تارة، ثم تعلو بها الاخرى. والناس تمضي، شعوبا وقبائل، في حركة مد وجزر دائمة، في أمة واحدة شاملة يتجاذبها الخير والشر؛ دين جامع، وشيع أشتات، ثلة عاملون للوحدة والجماعة، وعصبة جادون للفرقة والفردية. ترى ذلك في كل حركة لهم وسكون، في كل تفكير أو سلوك؛ فالله الواحد، ودين التوحيد، والأصل الواحد، والأخوة في الله، وآصرة العقيدة، و"البنيان المرصوص" و"الجسد الواحد" كلها مظاهر لجوهر واحد قائم في الفطرة، جامع على الوحدانية. والعنصرية ُ ، والشعبُ المختار، والأديان والمذاهب، ورابطة القرابة، والجنس واللون، والأقانيم، كلها مظاهر لأعراض قائمة على الفرقة والتعدد. وقد نطق القرآن بهذا فقال تعالى "تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى" ومبدأ الوحدة ذاك مبدأ شامل للكون كله، متجه قدما نحو الكمال المطلق، إن ورودا في انقباض كانقباض الجاذبية، أو صدورا في انبساط كانتشار أشعة الشمس. فالكل موصول والكل متصل من مبتدأ إلى منتهى.
المسلم والوحدة:
إن رؤية المسلم تنكفئ نحو الأصول في كل شيء. فكل من نشأ على الإسلام، على الفطرة، تظهر عليه آثار من هذه النظرة، في سلوكه وفكره، في عمله وتجارته، في صوابه وخطأه... وما ذلك إلا لأن روح الإسلام تقصد بالحياة كلها ذلك المقصد، وتسلك بالناس جميعا هذا المسلك. لقد جاء الرسول الخاتم ليربط الناس بربهم الواحد، وينزل الآلهة المزيفة من صياصيها، هدما وإحراقا، ويؤصل أصلا جديدا "لاإله إلا الله". ثم ليربط الناس جميعا بأصلهم الواحد، ويطيح بفضالة الجنس واللون، ويقيم التقوى، فيؤصل أصلا جديدا "كلكم لآدم وآدم من تراب"، أصلا يجمع البشر جميعا أشتات أشعة صدرت عن نجم واحد، وانطلقت في الأرض منبثة رجالا و نساء، من نفس واحدة. ثم ليربط الناس بالآخرة دار البقاء والخلود، ويحقر الدنيا ويجعلها مزرعة للآخرة، أو جسرا عابرا إلى هناك، زاد السالك فيه تقواه وعمله، فأصل أصلا جديدا "وللآخرة خير وأبقى"، أصلا دفع الناس أفواجا نحو مستقبل واحد آت قريبا، فاستصغروا حاضرهم ونبذوا كل صراع أو مدافعة، إلا ما كان سباقا نحو المغفرة وجنة عرضها السماوات والأرض. ثم ليجمع الناس على كتاب واحد، حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض، تفصيلا لكل شيء وهدى ورحمة.
فالمسلم يمضي قدما نحو المستقبل، ومعه أصول جليلة يتكئ عليها ويستهديها، وهو يعلم أن هناك في كل أنحاء الأرض رجالا مثله، يؤمنون بما يؤمن به،فتصغر الأرض على سعتها، ويجد نفسه وهو في القرية النائية في الجبال، على صلة بمن يقف على أطراف الأرض، خمس مرات في اليوم، ويوما في الأسبوع، وشهرا في السنة، في وحدة شاملة تنفلت عن الزمان والمكان، وتذوب فيها المسافات، ويتداخل الماضي و الحاضر والمستقبل جميعا ، في لحظة يتطابق فيها الكون والناس. فالرسول الواحد، والكتاب الواحد، والأصل الواحد، والهدف الواحد، كلها دوائر متداخلة لمركز واحد، يمسكها إليه، وتهفو للقائه؛ أو هي مسالك بيض تفضي إلى أنواره وجلاله،إلى الله الواحد. والكل يتحلقون حوله، كما يتحلق المسلمون حول الكعبة، في موكب هائل دوار، كما تدور الكواكب حول الشمس، أو الأنظمة الشمسية في المجرة، أو المجرات حول مركزها، وكما تدور الإلكترونات في الذرة حول النواة. كون أكبر وكون أصغر، في نظام واحد بديع، ومسار فريد دقيق؛من الغرب إلى الشرق، من اليسار إلى اليمين.بل إن الإنسان نفسه على اختلافه في الأمة الشاملة، ينزع في باطنه الذي ينفلت من رقابة العقل، إلى سلوكات في الحياة تكشف عند تكررها وانتشارها الهائل بين الناس، عن توحد الإنسان بما هو جزء من الكون، بكل عنصر فيه، وخضوعه لنفس النظام السابق، لا يحيد عنه إلا في استثناءات تؤكد القاعدة ولا تنفيها. فسدادات القناني جميعها تفتح إلى اليمين و تقفل إلى اليسار، وكذلك الحنفيات والبراغي، وحلبات السباق جميعا تدور من اليسار إلى اليمين، وغير ذلك كثير. وكأن ذلك خضوع لاشعوري أو فطري لناموس الكون الأعظم، في أن الفتح يبدأ على اليمين والإغلاق يكون على اليسار. سلوك بسيط يمارسه مئات الملايين من الناس كل حين، لا يختلف في جوهره عن إغلاق الكون كله يوم تقوم الساعة، بانعكاس دورة الكون نحو اليسار، كما قال عليه السلام:" لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها". لقد فـُتح الكون بحركة عامة يمينية وسيُـغلق بحركة عامة يسارية، وبينهما آماد طويلة وأمم.
وهكذا ينضم الإنسان، ولو أنه المخلوق المكرم بالعقل الذي أهله لحمل الأمانة العظمى، ينضم إلى المخلوقات كلها، متحدا معها في عبودية عامة لخالق الكون في وحدته وجلاله. "وإن من شيء إلا يسبح بحمده" . لذلك تجد عند المسلم هذه النظرة؛ نظرة الرحمة والصون والإصلاح، للكون الذي استخلفه الله فيه، ليعمره ويحافظ عليه: "لا تقطعوا شجرا"، "إذا ذبح أحدكم فليحِـدّ شفرته ولْـيُـرحْ ذبيحته"، "دخلت امرأة النار في هرة"، "إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فلْـيغرسها".
مجتمعات الفرقة
والفرقة كمبدأ متأصل في مجتمعات عدة، له جذور تضرب في أعماق التاريخ، منذ فرق الشيطان بين آدم والجنة التي أسكنه الله فيها، فقال "اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو"، ليبدأ أول صراع في الأرض، ويُـسفك أول دم طاهر عليها من أجل متع عابرة ولذة. ثم تمضي الأمم تترى والصراع يمتد ويقوى، والفرقة تعزز صفوف كثير من الناس؛ جاء نوح فجمع من آمن في السفينة، وتفرق عنه عدد غير يسيرومنهم ابنه. وتفرق من بعده بنو إسرائيل عن موسى وعبدوا العجل وأضلهم السامري، ثم شتتهم الله أربعين سنة يتيهون في الأرض. وتفرق قوم عيسى عنه وأسلموه، وادعوا قتله، ثم تفرقوا من بعده مذاهب شتى، حرفت الإنجيل كما حرف اليهود التوراة، حتى أحصى عليهم "أحمد ديدات"، العالم الكبير، خمسا و عشرين ألف نسخة من الإنجيل لا يتطابق منها اثنتان. وفرقوا الإله إلى ثلاثة إشراكا بالواحد، والأمثلة كثيرة. وكلها تبين منزع الفرقة والشتات، بل إن من أمثلتهم "فرق تسد". وكأنه لما كانت الجذور الموغلة قد تغذت تلك الجرثومة في أصولها الأولى منذ آدم، وسرت عبر الأجيال تردفها نوازع النفس الأمارة، وجنود إبليس من البشر، فقد قامت "مُـورِّثاً" دخل في التفكير الإنساني، يدفع به دفعا حتما نحو أهوى درك في الفرقة وهو الفردانية المطلقة، حيث لا يعيش الشخص إلا لنفسه، ولا يرى من مستحق للحياة سواه. وهذا ما بدت سوابق من أولاه واضحة من زمان، وكـبـــــــره لا يزال مستورا في سواد الغيب، وقد أهل بالانفجار. وتحول كل ذلك في المجتمعات هذه إلى منظومة فكرية وعملية، تحكم السياسة والاقتصاد والأخلاق. أو بمعنى آخر إلى أسس مؤصلة تقوم عليها فلسفة الحياة عندهم، ونظرتهم إلى الطبيعة والإنسان والكون جميعا؛ فسمعنا "بالسوبرمان" عند "نيتشه"، والوجودية، والنازية، والصهيونية، والعبثية، والفوضوية، والبرغماتية، ونهـــــاية التاريخ....وغيرها كثير. وكلها انحرافات عن الفطرة، لها مظاهر براقة خادعة، وبواطن كامن فيها هلاك دامر، عانى منه الناس كثيرا وما زالوا، وعانت منه الأرض ولا زالت والفضاء والماء. فحمى الاستهلاك والإسراف في متع الحياة والجسد، والبحث عن إشباع شهوات النفس دون وازع ديني أو أخلاقي، بل حتى عقلي، خلق في الأرض اختلالا أثر على ميزان الحياة فيها؛ فمات قوم جوعا ومات آخرون من التخمة، وعاثوا فسادا في الثروات والناس، حيث20٪ من سكان الأرض، يهدرون 80٪ من ثرواتها. هذا في عرف ما يسمى بالصراع بين الشمال والجنوب، لكن حديثـنا عن "الأمة" لذلك فهذا الفرق الهائل بين الناس في نصيبهم من الحياة، يطال الأرض كلها، ولا تخلو منه أرض؛ هوة هائلة تتسع مع الزمن ليزداد الغني غنى والفقير فقرا. فليس هناك شمال غني وجنوب فقير، وإنما هي عصبة تملك كل شيء وغالبية لا تملك شيئا، والمال دولة بين الأغنياء. تجد هذا في كل أرض حللتها، شمالا وجنوبا، شرقا وغربا؛ بل توجد دول تأكلها المجاعات أكلا، وتدك أوصال أبنائها، وفيها عصبة يملكون أراضي شاسعة يستنزفون خصبها في زراعة الورود والبصل والكروم...وفواكه نادرة تصدر إلى بلاد أخرى، ويسمون ذلك استثمارا وتنمية وعملة صعبة. هذه هي الأنانية والفردانية التي أكلت النفوس فدمرت ما حولها ثم تدمر نفسها، كالنار تأكل نفسها إن لم تجد ما تأكله.
ومفهوم الفرقة هذا الذي انتهى إلى الفردانية المطلقة، هو الذي أعمى الدول المصنعة في الغرب عن التنبه إلى مخاطر جشعها واستنزافها لخيرات الأرض، حتى صحا الجميع على إنذار بفناء الأرض، وهلاك المخلوقات فيها، بسبب التلوث الذي وصل إلى حدّ يرى بعضهم أنه أفلت من السيطرة ، لأن استقرار تلك المجتمعات مبني على ذلك منذ زمن، والحد من التلوث قائم في أساسه على الاقتصاد في العيش، وابتغاء سبيل وسط بين شح البخيل وترف المسرف؛ أو كما قال ،عليه السلام:"بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه". لكن هيهات لمجتمع تشرب جرثومة الاستهلاك والسرف حتى نخاعه، فأضحت من مكوناته الأساسية، هيهات له أن يتخلى عن ذلك كله أو بعضه.
وأختم الموضوع هذا ببيتين من الشعر، ظلا يلحان علي وأنا أمضي في جمع أشتاته، ويتواردان على خاطري كلما لاحت لي فكرة في جزء منه أو عنصر، وهما يلخصان النظرتين المختلفتين إلى الكون؛ نظرة الوحدة، ونظرة الفرقة والفردانية المطلقة، وهما :
قول" أبي العلاء المعري": فلا هطلت علي ولا بأرضي *** سحائب ليس تنتظم البلادا
وقول"أبي فراس الحمداني": معللتي بالوصل والموت دونه *** إذا مت ظمآنا فلا نزل القطر.
مصطفى بوعزة
[b]