-لمحة تاريخية
لا بد من العودة إلى الوراء،إلى الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي من أجل الوقوف على بدايات هذه الأنظمة أي من إرهاصات تشكلها ككيانات سياسية ونضجها إلى مرحلة أفولها. ناهيك عن الإحاطة بالظروف التاريخية التي ميزت كل مرحلة على حدة. لقد خرجت هذه الأنظمة من رحم الحركات التحررية التي قادها شباب تربوا في كنف المستعمر وشربوا من معين الحركة السلفية التي حاولت إعادة تكوين الذات العربية الإسلامية التي حطمها المستعمر الأجنبي. حققت هذه الحركات الاستقلال مستفيدة من الشروط التاريخية المواتية.إذ عملت بالتوازي مع نظيراتها في دول العالم الثالث وكذا استفادتها من نتائج الحرب العالمية الثانية التي ساهمت بشكل مباشر في استقلال دول العالم الثالث وفقد بريطانيا وفرنسا لمكانتها لصالح الولايات المتحدة بنظامها الليبرالي والإتحاد السوفيتي بمنظومته الاشتراكية.ورغم أن الاستقلاليين تسلموا السلطة في عدد من الأقطار العربية لكنهم وجدوا أنفسهم في وضع صعب حيث مخلفات المستعمر الكبيرة وانتشار الأمية وضعف البنية التحتية وإكراه الوحدة الوطنية وعدم وضوح معالم دولة عربية ديمقراطية حديثة كنموذج يحتذى به قادر على فرض نفسه في المحيط الجهوي والعالمي،كما أنهم وجدوا أنفسهم مجبرين إما على الولاء إلى الولايات المتحدة الأمريكية أو الإتحاد السوفيتي فتعمقت الخلافات الداخلية داخل الأحزاب الاستقلالية وتحطمت آمال الطامحين إلى النهوض بالأمة العربية وذهبت دماء شهداء الاستقلال سدى.فكان الانقلاب في مصر وليبيا والعراق والجزائر...وبقيت دول أخرى تحكمها ملكيات احتكرت مكتسبات النضال ضد المستعمر فقامت بأشبه ما يكون بانقلاب على المسار الذي رسمته الحركات الوطنية التي حققت الاستقلال.هذه الأنظمة بدأت تتساقط تباعا في ربيع 2011فتساقط معها عدد من الشباب فداء للثورة في ساحات التغيير.
2-نفاد الخطاب الإيديولوجي
قامت الأنظمة العربية المذكورة آنفا على مجموعة من الأركان استمدت منها شرعيتها :
-التعبئة الجماهيرية وإذكاء الحس القومي ووضع القضية الفلسطينية ضمن الأولويات(الحزب الناصري نموذجا).
-شعار العدل في توزيع الثروات وإعادة توزيع الأراضي في تناغم مع مبادئ الاشتراكية التي لقيت صدى كبيرا لدى النخبة العربية، وخاصة مع اكتشاف ثروات نفطية هائلة في العالم العربي وكذا سعيها لتحطيم الأرستقراطية التقليدية.
-تأميم المنشآت والمصانع وجعلها في خدمة القضايا الوطنية (التسلح، الاكتفاء الذاتي (تأميم قناة السويس، السدود...)
-عسكرة الشعب وتبني خطاب إيديولوجي مناهض للغرب في الغالب عدا بعض الاستثناءات في الدول الفقيرة من حيث الموارد والتي تحتاج إلى مظلة تحميها وتوطن أركان العائلة الحاكمة مقابل التنازل عن قضايا قومية.
-اعتماد نظام الحزب الوحيد في الحكم وتصفية الأصوات المعارضة ومعاداة الأنظمة المخالفة إيديولوجيا ونعتها بالرجعية(حورب التيار الإسلامي في عدد من البلاد العربية، الإخوان المسلمون نموذجا.)
ورغم أن هذه الأنظمة عملت على شحذ الهمم في فترة معينة لكنها دخلت في متاهات ضيعت فيها كثيرا من الجهد إذ خاضت حروبا سواء ضد إسرائيل أو ضد دول الجوار استنفذت فيها طاقات وخيرات البلاد في التسلح،ورغم بناء منشآت ضخمة ورغم سعيها لبناء اقتصاديات صناعية فإنها واجهت تحديات داخلية وخارجية كبيرة اضطرت معها إلى تسخير جل إمكاناتها لتوطين دعائم الحزب الحاكم بأي ثمن.وبالتالي شيئا فشيئا بدت تفقد اللحمة بينها وبين الجماهير وبالتالي نفاد الخطاب الإيديولوجي فالمآل المعلوم.
3-انهيار جدار برلين منعطف خطير.
نصل إلى مرحلة مهمة في التاريخ المعاصر،إنها نهاية إيديولوجية كانت تغطي نصف الكرة الأرضية وكانت تستقطب مجموعة من الحركات في جميع دول العالم وملاذ كل متضرر من الليبرالية،إنها المظلة التي كان يحتمي بها عدد من الحكام العرب،إنها المرحلة التي لم يعها جيدا الحكام العرب فيسارعون إلى التغيير الإيجابي والتبني السريع لمبادئ الديمقراطية والتناوب على السلطة وحقوق الإنسان،لكن هيهات فالأمر غير ممكن وإن سعوا إلى ذلك فشعوبهم مازالت حينئذ تئن تحت وطأة الفقر والأمية وبالتالي كل محاولات إضفاء الديمقراطية ورفع شعارات جوفاء تبجحت بها بعض الأنظمة كانت باطلة لأن هذه الشعوب كانت ترى الأحزاب والبرلمان والحكومات عبارة عن تمثيليات مسرحية ليس إلا، وبتعبير أدق كماكياج تجعله امرأة تقليدية موجه أساسا للخارج،فهذه الأشياء لا تبث للواقع بصلة.مازال العرب حينئذ لم يصلوا إلى تلك المبادئ، أي مازالت لم تعد مطلبا ملحا لعموم الناس كما هو الشأن اليوم.كان العرب تحت تخدير القومية وشعارات كالامبريالية و الصهيونية وما إلى ذلك.والدليل هو خروج عموم الشارع العربي في الحرب على العراق تأييدا لدكتاتور ارتكب جرائم في حق الإنسانية اسمه صدام حسين،ها التاريخ يثبت أنا كنا مخطئين.
4-العولمة
مع انهيار الإتحاد السوفيتي تم إطلاق سراح تكنولوجيا التواصل التي كانت حبيسة الجهاز العسكري الأمريكي كشبكة الإنترنيت التي اكتشفت منذ 1969وبعدما لم يبق طائل من إخفائها فالدب القطبي غدا مسالما.أطلقت في التسعينات وحرر الإعلام وألغيت الحواجز والحدود على الأفكار والمعلومات وصارت شاشات الأنظمة الشمولية مهجورة وحج الشباب اليائس إلى شبكات التواصل بحثا عن طموحاته الضائعة كما دخلت أوروبا الشرقية اقتصاد السوق وتعددت الأحزاب بعد ثورات سلمية باستثناء أحداث يوغوسلافيا الأليمة والتي ذهب ضحيتها آلاف القتلى.
5-تنظيم القاعدة وردة الفعل.
إنه رفض لعولمة الأفكار والمعلومات وإلغاء الحواجز،إنه اجتياح القيم الإسلامية من قبل القيم الليبرالية حيث لا سبيل للحد منها سوى الرفض والتحصن في الجبال والأدغال في أفغانستان حيث المجال أنسب لتطبيق الشريعة .فالأمر يصعب في مجتمعاتنا العربية المكشوفة على كل التأثيرات،يضاف إلى ذلك الإقصاء والتهميش والفقر والأمية التي عانى منها الإنسان العربي طيلة عقود من الزمن في ظل أنظمة شمولية مستبدة لا تأخذها رأفة في قمع كل الأصوات المناهضة.ونذكر هنا المجازر التي ارتكبت في عموم الوطن العربي من المحيط إلى الخليج أثناء قمع التمردات والثورات و اعتقال الناشطين السياسيين والحقوقيين.و منهم من لازال يقبع في السجن إلى يومنا هذا ظلما وعدوانا ومنهم من قضى نحبه فيه ،وتتعدد الروايات في هذا الأمر. وصولا إلى الفترة التي طفحت فيها نظرية المركز والمحيط ونهاية التاريخ فصار كل شيء موحدا بين الشباب (نمط التفكير ،نمط الاستهلاك ،اللباس...إلخ)، لقد صار العالم قرية واحدة بالفعل.
5-الثورة، لماذا تونس بالضبط؟
سعت تونس إلى التحديث سعيا حثيثا و هي الدولة العربية السباقة إلى كل برامج التعليم الجدية والدولة الساعية إلى عصرنة أجهزتها حيث استطاعت القضاء على الأمية تقريبا وتعليم المرأة وخروجها للعمل ،إنه الشعب العربي الذي توفرت فيه شروط الثورة،دون أن ننسى أن الحضارة التونسية هي الحضارة الأكثر بروزا في المغرب العربي من قرطاج حيث الحرب البونيقية التي دامت 146 سنة إلى القيروان إلى مقتل فرحات حشاد عام 1952 الذي عقبه قيام المغرب العربي للكفاح ضد المستعمر الفرنسي،فالقفزة الاقتصادية التي حققتها ببلوغ معدل نمو محترم معتمدة على يد عاملة خبيرة وكذا قدرة هذا القطر على الاستحواذ على أكبر نصيب من الاستثمارات الخارجية في منطقة المغرب العربي.
.إذن يمكن حصر الشروط التي توفرت في تونس في ما يلي :
-وعي حقوقي قديم عرف كمونا في فترة زين العابدين بن علي.
-نسبة بطالة الخريجين الكبيرة.
-الأزمة الاقتصادية التي عرفها الإتحاد الأوروبي وبالتالي انسداد الأبواب في وجه الحالمين بالهجرة.
-توفر البلاد على ثروات محترمة.
-تضييق على الحريات والخناق السياسي من طرف الحزب الحاكم.
-عدم مواكبة النظام لدينامكية المجتمع.
-غلاء المعيشة وارتفاع الأسعار.
-تقهقر الطبقة الوسطى.
-انتشار الفساد الإداري والمالي في غياب تشريع قانوني يحمي الفئات المتضررة.
6-حمى الثورة وخصوصيات كل قطر :
لاشك أن لكل قطر عربي خصوصيات،فإذا كانت الجزائر مثلا خضعت للمستعمر الفرنسي منذ 1830فإن المغرب لم يستعمر إلا في سنة 1912 بموجب عقد حماية،وإذا كانت الجزائر قد خضعت للحكم العثماني فإن المغرب لم يخضع له قط،وإذا كان نظام الجزائر جمهوريا بعد الاستقلال فإن النظام المغربي ملكي منذ حوالي ثلاثة قرون أي أنه من أقدم الملكيات في العالم،علاوة على ذلك فالرقعة الجغرافية المغربية تختلف عن الرقعة الجغرافية الجزائرية،نفس الشيء بالنسبة للتشكيلة السكانية. وإن تقارب القطران في مجموعة من الخصوصيات العرقية والثقافية والدينية بحكم المحيط الجهوي المشترك فإن لهما أشياء مشتركة وأشياء مختلفة لكن شروط الثورة تتوفر في البلاد العربية جميعها،فكل أنظمتها شمولية وكل دساتيرها غير ديمقراطية وكلها تعاني التخلف الاقتصادي والاجتماعي وإن تفاوت مستوى الدخل الفردي فإن هامش الحريات ضئيل مع تفاوت نسبي بينها،كما أن السلطات والصلاحيات كلها في يد الحاكم في كل الأقطار العربية لدى فحمى التظاهر ستعمها كلها.وكلما كان هامش الحريات أكبر وكلما كانت مرونة في التعامل مع الأحداث كانت الخسارة أقل والانتقال سلمي من مرحلة إلى أخرى.
7-القطيعة مع الماضي.
على الأنظمة التي تريد الاستمرار والتجدد أن تقوم بالمبادرة واستباق حدوث شروط الثورة كتغيير الدستور وتوسيع هامش الحريات وإرساء تعددية حقيقية،لكن الحقوق تؤخذ ولا تعطى... وإن كانت للأنظمة الشجاعة لفعل ذلك فالإصلاحات تفرض نفسها شاءت أم أبت خوفا من انتقال حمى الاحتجاجات والإضرابات والإعتصامات والخوف من التدخل الخارجي في الأنظمة المستبدة بالحكم.و المجتمعات العربية في دينامكيتها الحالية تريد الثورة من أجل إعادة توزيع الثروة وإقامة دولة الحق والقانون والعيش الكريم وإنهاء عهود الظلام والاستبداد والطغيان.
إن طموحات الشباب العربي أكبر مما تتصوره الأنظمة،إنه يطمح إلى عالم عربي متقدم يحتل مكانة مشرفة بين الأمم الأخرى في جميع النواحي،إنه يهدف إلى فرض ذاته وكسب الاحترام داخليا وخارجيا،إننا نعيش فترة مهمة من التاريخ العربي تشبه إلى حد كبير القرن الثامن عشر في أوروبا حيث انتقلت العلاقة بين الحاكم والمحكوم من الخضوع والطاعة إلى التعاقد والمحاسبة.وأخيرا أشير إلى تحد كبير سيواجه العرب في هذه الآونة وهو محط نقاش كبير بين المختصين والمهتمين،ألا وهو إشكالات وضع دساتير موافقة لطبيعة الدول العربية حيث يستحيل فصل الدين عن الدولة وكما نعلم فعدد من الأقطار العربة تحوي أقليات غير مسلمة يجب أن نضمن لها حقوقها،كما أن النموذج الغربي لا يمكن استنساخه في العالم العربي .ترى هل يستطيع الشباب العربي الثائر وأساتذته أن يهيئوا دساتير تؤسس لديمقراطيات أو أنظمة حكم مواتية لها تحترم المبادئ التي سعت إليها بحيث تضمن حقوق الجميع.
8-فرصتك أيها الشباب العربي
إنها فرصة تاريخية للتخلص من خفافيش الظلام والتخلف، فرصة لتحقيق الحلم العربي، فرصة لتوحيد الرؤى بين االشباب العربي من المحيط إلى الخليج، فرصة لإعادة الاعتبار للإنسان العربي(مجده، كرامته...)إنها مناسبة لإعادة كتابة بنود العقد المؤسس لعلاقة الحاكم بالمحكوم،لقد حان الوقت لتحكموا أنفسكم بأنفسكم فتختاروا ممثليكم ونوابكم ووزرائكم وحكامكم بكامل الحرية والشفافية والمصداقية،عليكم أن تقرروا مستقبلكم بأنفسكم،وتختاروا المسار الأنسب،فارفعوا سقف المطالب واعلموا أن هناك من يريد تقويض طموحاتكم وتسفيه أحلامكم.28-03-2011