بقلم: عبد الغني العجان أضواء نقدية على المشروع الشعري لأدونيس (1)
الفهرس
حول المفاهيم والمصطلحات1- في مفهوم الحداثة2- إحداث فوضى في المصطلح3 – أية مفاهيم لحداثة أدونيس؟ 4 – أصول المصطلح الأدونيسي
حول المفاهيم والمصطلحات
أثار علي أحمد سعيد أدونيس ولا يزال، عبر أعماله وتنظيراته، سجالات نقدية كثيرة تراوحت بين السخط والرضى، والهجوم والدفاع "حتى كاد الناس أن يكونوا في هذا الاختلاف فريقين اثنين:.. فريق المادحين المريدين، الذين يرفعون أدونيس إلى قمة المجددين المعاصرين في الإبداع الشعري.. وفريق المعارضين الناقدين المهتمين، الذين ينزلون به إلى حضيض الخيانة والزندقة والإلحاد" [1].
ووسط هذا التضارب تسلط هذه الصفحات، الضوء على بعض جوانب المشروع الشعري الأدونيسي، وذلك في مقالتين، تروم الأولى مقاربة الجانب المفهومي لديه. وتتناول الثانية إن شاء الله مستويي الشكل والمضمون فيه. ولا نزعم أنا سنقول في ذلك القول الفصل فما يهمنا، أساسا، هو إشارات عابرة تطمح أن تكون موضوعية.
نبدأ بجانب المفاهيم ونستهل كلامنا بالقول إن الحديث عن المفاهيم والمصطلحات، حديث لا ينفصل عن النقد ولغته، ومساره في سبر أغوار التجارب الشعرية، ومفاصلها المختلفة، وتبين أشكالها، ومظاهرها، والحكم عليها. من هنا فإن مراجعة الحداثة الأدونيسية من هذه الزاوية يعد ضرورة منهجية نقدية أساسية.
1- في مفهوم الحداثة
الحديث في اللغة ضد القديم. وحدث الشيء يحدث حدوثا وحداثة، وأحدثه فهو محدث وحديث، وكذلك استحدثه، ومن معاني الحدوث: كون الشئ لم يكن. ومن معاني الاستحداث الجدة. وحدثان الأمر، وحداثه، أوله، وابتداؤه، ونضارته. وحداثة السن كناية عن الشباب، وأول العمر.
هذه الدلالات المعجمية للفظ الحداثة، تجعله في دائرة التطور والتغير. وقد تناسلت من أصولها دلالات ذات صلة بتحديث الحياة الفكرية والأدبية والمادية في تحولاتها التحقيبية المستمرة تجديدا وتغييرا. "وقد فهم القدماء الحداثة على أنها التجديد، وأن كل جديد في عصره سيصبح قديما بالنسبة للخالفين، وكانوا يقولون لكل جديد لذة، لحلاوة قرب العهد من الشئ، وموافقة ذلك لمركوزات طبائع الناس وصوغ أذهانهم، وكفاءتهم في حل مشكلات العصر الذهنية والحسية" [2].
من أجل ذلك لابد من الإقرار أن البحث عن الجديد طبيعة في الإنسان، وظاهرة متميزة في تاريخه، ولولا ذلك لما استطاع أن ينتقل من عصره الحجري إلى واقعنا، ومن الكهوف إلى الخيام والعمارات والقصور. وهكذا فلا يعقل أن يعترض على هذا المبدأ، وهو سنة كونية ماضية على قدر من الله العزيز الحكيم.
إن الحداثة بهذا المعنى قضية لا يمكن تجاهلها ولايجوز أن تدان لأن بديلها الوحيد هو الجمود والخمول. لكن تمثلات دعاتها ورموزها في العصر الحديث "ذهبت مذاهب في الشطط والإغراب، والسخف من خلال ظمأ ميتافيزيقي مشروع باتجاه تجاوز الذات والتجدد الدائم (واللامحدود). وزاد الطين بلة أن اضطرار الحداثة لتمييز نفسها عن المألوف، والمبتذل، والتقليدي، دفعها إلى السرف، والإغراب، والهوس، والانحراف بها عن مسارها المرجو، وبالتالي تسبب في عزلتها عن الجمهور المتلقي الذي وقع في حيرة قاتلة" [3]. وليس الخطاب الحداثي الأدونيسي بمنأى عن هذا السياق، بوصفه مثالا للتخطي. فلا حداثة لديه إلا بفكرة الانفصال والهدم الدائم للقيم والمعايير الأصيلة في تراثنا الفكري والأدبي، ولا إبداع لديه لا بسلسلة من الأفعال التدميرية للقوانين العامة واللغة، وسيادة المعنى وأسبقيته داخل النص. كل ذلك في توق إلى اللانهائي واللامحدود، والفوضى والغواية الأسلوبية.. إذ "لا يكفي في –رأييه- أن يتحدث الشاعر عن ضرورة الثورة على التقليد، وإنما عليه أن يتبنى الحداثة. وليست الحداثة أن يكتب قصيدة ذات شكل مستحدث، شكل لم يعرفه الماضي. بل الحداثة موقف وعقلية، إنها طريقة نظر وطريقة فهم، وهي فوق ذلك، وقبله ممارسة ومعاناة. إنها قبول بكل مستلزمات الحداثة: الكشف والمغامرة واحتضان المجهول" [4] والتجاوز وهو ما يعني أن الحداثة لديه لا تتشبث مبدئيا بمعطياتها، فهي على استعداد طبيعي للإنقطاع عن نفسها. في محاولة لارتياد آفاق مبهمة، والسعي وراء مطلق لا نهاية له، ولا غايات محددة تحكمه.
2- إحداث فوضى في المصطلح
خضعت الصياغة الاصطلاحية للشعر الحداثي لضرب من الحشد والتعدد الاصطلاحي دون تمييز دلالي يمنح كل مفردة اصطلاحية وعاءها المعنوي وتاريخيتها الخاصة. مما منحها في نهاية المطاف لونا من العشوائية والتضارب والفوضى بين تسميات لا حد لها، منها: "الشعر الحديث"، و"الأسلوب الجديد"، و"الشعر الحر"، وشعر التفعيلة"، و"الشعر التفعيلي"، و"الشعر المعاصر"، والشعرية المفتوحة"، و"الشعر الجديد"، و"الشعر المسترسل" و"الشعر المنطلق".. وارتباطا بموضوع هذا المقال فلن نبتدع عجبا، بقولنا إن الصياغة الاصطلاحية الأدونيسية لمفهوم الشعر الحداثي قد زادت من تفاقم فوضى التعدد الاصطلاحي لهذا الشعر، في فترة يعتقدها أدونيس "مرحلة انتقال من واحدية المفهوم إلى كثاريته، أو من الواحد الشعري إلى المتعدد الشعري" [5].
فبالإضافة إلى "الكتابة" الجديدة" خضع هذا المصطلح عند أدونيس "لمزاحمة مصطلحين آخرين هما: الكتابة الابداعية والكتابة الشعرية، وقد انطلق هذا التزاحم من التعدد الاصطلاحي الذي مارسه أدونيس باستخدامه المصطلحات الثلاثة وهو غارق حتى النخاع في حمى التأسيس لفتح شعري حداثي ينفلت من معايير الشعرية العربية، لا التقليدية وحسب وإنما مما أنجزته حداثة الشعر العربي حتى هاتيك المرحلة أيضا" [6].
وفي السياق ذاته عُدَّ أدونيس من منظري قصيدة النثر العربية، وأول من أطلق هذا المصطلح. ومما يجدر تذكره في هذا الصدد، أن نازك الملائكة وفي سياق مهاجمتها لقصيدة النثر نعتت جبرا إبراهيم جبرا بإحداثه "فوضى في المصطلح والتفكير" [7]، وذلك لأنه وسم حركة قصيدة النثر باسم "الشعر الحر". وترى أنه ألصق حركة هذا الأخير – ذات الصفة العروضية المستندة إلى بحور الشعر العربي وتفعيلاته- بـ "نثر شعري" له صفات النثر الاعتيادي المتفق عليه.
ومع نازك الملائكة يذهب وليد سعيد الشيمي إلى "أن ما أطلق عليه أدونيس "قصيدة النثر" هو ما أطلق عليه جبرا الشعر الحر، أي أن الأمر ليس مقتصرا على نازك فقط*. فأدونيس بهذا، قد أحدث هو الآخر فوضى في المصطلح والتفكير، إن كان رأي جبرا صحيحا" [8].
ومن جانب آخر فإن هذه المصطلحات المتصلة بتسمية حركة الشعر العربي الحديث وغيرها لم تشهد دلالات مفهوميه قاطعة مما جعلها مشوبة بالتعثر والاضطراب لدى مبتكريها. فنازك مثلا تستخدم مصطلح الشعر الحر، وهي في الآن نفسه توظف مصطلح "الشعر المعاصر" عنوانا لكتابها المؤسس لهذا الشعر. وأدونيس يتحدث عن الشعر المعاصر، وعن الكتابة الجديدة... لكن في إطار استعماله الاصطلاحي "للشعر الحديث".
وهكذا يمكن الخلوص إلى أن جميع المصطلحات الناجمة عن حمى الحداثة لدى أدونيس، وغيره قد زادت من دروب وثنايا الشعر العربي الحديث. وفي مثل هذه الظروف فإن النبش في الدلالات والاصطلاحات إجراء أصيل لا بديل عنه للخروج من تلك المنعرجات والفوضى.
3 – أية مفاهيم لحداثة أدونيس؟
لم يفصح خطاب الحداثة الشعرية العربية المعاصرة عن صياغة مفاهيم نقدية أو جمالية يمكنها أن تشكل مرتكزات واضحة، وأساسية لخطاب شعري متكامل، ومفتوح على التجربة بما يسهم في تعميق تحولات القصيدة الجديدة، وتعميق رؤاها الفكرية والجمالية وأدواتها التعبيرية والبلاغية. وعلى الرغم -فيما يقول الباحث مفيد نجم-: "من أن ثمة اعتقادا ساد في تاريخ هذه الحداثة حول تبلور مفاهيم تخص القيم الفنية والفكرية لهذه الحداثة في تجلياتها وأشكالها وتجاربها المختلفة، فإن التباسا واضحا أو تراجعا ما قد أطاح ببعض هذه المفاهيم والقضايا، وعاد بها إلى بداية الجدل الذي احتدم في خمسينيات وستينات القرن العشرين، ولاسيما حول علاقة الشكل بالمضمون، ومفهوم الرؤية الشعرية الحديثة ومحتواه" [9].
ويتضح هذا التحول أو التراجع من خلال تقييم ومراجعة مسيرة هذه الحداثة، ومفاهيمها ومواقف أهم روادها وممثليها وشعرائها، وعلى رأسهم أدونيس الذي ما فتئت مسيرته الشعرية الحداثية تتحطم على صخور الهدم، خلال ما يربو على ثلاثة عقود.
ولعل عدم ركون أدونيس يوما ما إلى معيار أو منهاج تقاس إليه منجزاته النظرية والشعرية، ولعل تحركه بغير ضابط ولا كابح ولا مقولات ارتكاز، هو ما جعله دائم التراجع والاختلاف والاطاحة بالمنجز في إطار من البحث عن منجز مجهول ومحطم سلفا.
إن التسلح بمصطلحات ومفاهيم مثل: "التجاوز" و"التحطيم"، و"الرفض"، و"التخطي"، و"التمرد".. لا تسعف عملا مهما كانت صفته أو طبيعته، إلا أن يكون ضربا من العسف والهشاشة والتراجع والتحول الدائم في شكله ومضمونه، وكذا مفاهيمه...
فهل تعبر هذه الوضعية عن انكفاء في الرؤية الحداثية أم "تشير إلى أن شعرنا الجديد يتزحلق بقوة في هاوية اللعب" [10] بما يمكن أن يتضمنه مفهوم اللعب من عبثية وفوضوية وعدم انتظام، واستقرار على شكل أو مفهومات ثابتة. أم هل "يصح الحديث عن أدونيس الشاب وأدونيس الكهل في هذه التجربة حيث تتباين المواقف والممارسة الكتابية وفقا لتباين التجربتين" [11]. أم يمثل ذلك جزءا مما يشهده الواقع الراهن من تداع وفوضى وانهيارات في القيم والمفاهيم والمعايير على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي.. أسئلة مشروعة لابد من عرضها على "مشرحة النقد" في إطار مراجعة وتقييم أطروحة الحداثة، وإفرازاتها.
4 – أصول المصطلح الأدونيسي
أُغرِي أدونيس كثيرا بالتنظير للشعر الحداثي فكان أكثر من عني بمصطلح "الحداثة" وتأسيس مفهومها وتأصيله. "غير أنه لم يكن فيما كتب أو نظر إلا "ناقلا" أو "محاكيا"... فما الحداثة الأدونيسية إلا "السوريالية" ذاتها وهذا ما تثبته منظومة المفاهيم التي ظل يرددها أكثر من ربع قرن" [12]. وبالرغم من صمت أدونيس عن هذه الحقيقة فإنه لم يجد بدا من الاعتراف بها إذ يقول: "أحب أن أعترف بأني كنت بين من اخذوا بثقافة الغرب غير أني كنت، كذلك بين الأوائل الذين ما لبثوا أن تجاوزا ذلك وقد تسلحوا بوعي وبمفهومات تمكنهم من أن يعيدوا قراءة موروثهم بنظرة جديدة، وأن يحققوا استقلالهم الذاتي" [13]. ويقول أيضا: "وكما أننا نعيش بوسائل ابتكرها الغرب فإننا نفكر (بلغة) الغرب: نظريات ومفهومات ومناهج تفكير، ومذاهب أدبية... ابتكرها، هي أيضا الغرب" [14].
ويبقى السؤال الكبير ماثلا أمام القارئ/الباحث: كم اغتنت أعمال أدونيس من إنجازات الآخر؟ سؤال ترددت الإجابات عنه على شكل مجموعة من الاعتراضات على مصادر شعره وتنظيراته ومفهوماته.. وعلى الرغم من أن لابأس في انفتاحنا على تجارب أخرى لعلَّنا نجد فيها ما يفيد، إلا أن الذي يمكن أن يؤاخذ عليه أدونيس أو أي شاعر عربي آخر، هو أن ينصهر في التراث الأجنبي، وهذا مالا يستطيع منصف نفيه عن أدونيس ولعل في هذا الانصهار الذي لم يشهد له تاريخ الشعر العربي مثيلا، في تقديرنا، يكمن سر الحملات المضادة له، ويدفع –ولا يزال- خصوم الشعر الحديث، أو حتى بعض أنصاره وممارسيه إلى القول بأنه يبدو غير عربي في كثير من ملامحه الشكليه وقيمه وموضوعاته. فالشاعر امل دنقل على سبيل المثال، يشير إلى شعر: "موجة كاملة من الشعراء الذين برزوا في السنوات الخمس الأخيرة يرتدون عباءة أدونيس تقرأ لهم فلا ترى، لا واقع أقطارهم، ولا الواقع العربي كله، لا تعرف إذا كان هذا الشعر مكتوبا في لبنان أو في المغرب أو في إيرلندا" [15].
وفي السياق ذاته يأخذ الناقد حسين مروة – وهو من المتحمسين للشعر الحديث- على أبرز ممثلي الشعر الحديث (ومنهم أدونيس) ما يلاحظه في شعرهم من اتجاه "نحو الانفصال –وربما الانفصام التام- عن ينابيعه الأصيلة في حياتنا العربية وعن الشرايين التي تمنحه الحياة والحركة في أرضنا" [16].
وهناك ملاحظات كثيرة تؤكد على أن الشعر الحديث لم يستلهم حداثته من "شجرة العائلة"، بل من أصول غربية بالدرجة الأولى وليس هذا مقام عرضها بكل تفاصيلها.