قراءة في الديوان :" خلي لكلام عزري" للشاعر المغربي المراكشي عبد السلام البوعليوي
قلم الناقد بازين نور الدين
شاعر مغربي
bazinenoureddine@yahoo.fr 12/27/2005
ذكورية عناوين الكتب هل هي ظاهرة جديدة..؟ في الحقيقة، وعند قراءتي الأولية لديوان الشاعر الزجال عبد السلام البوعليوي، لم أستوعب نسبيا معانيه ولم أدرك خطاباته التي ما وراء السطور التي احتوتها القصائد.. لكن عندما أعدت الكرة مرات، وأرغمت نفسي على فهم رسالته، التي لا يمكن للقارئ العادي، أن يعثر عليها في أول قراءة للديوان، إلا بالبحث في ذاكرة صاحبه، وفي أسلوب عيشه.." خلي لكلام عزري" هو أول باكورة زجلية للشاعر عبد السلام البوعلوي، صدر عن منشورات جريدة الآفاق المغربية، وتتضمن 90 صفحة من الحجم المتوسط، و36 قصيدة زجلية.ويحاول الشاعر الزجال من خلال هذا الديوان، تقديم العديد من الحالات التاريخية والاجتماعية على جدلية الخطاب الشعر الشعبي المغربي، الذي يعتمد بالأساس على قاموس الواقع المعيشي، ويستنبط ألفاظه وكلماته من عمق المشاهد والأحداث، التي يكتنز بها المجتمع المغربي بصفة عامة، والإنسان المراكشي بصفة خاصة..من خلال هذا هذا الديوان الزجلي يبقى خيال الشاعر عبد السلام خيالا واسعا ومشاكسا في بعض الأحيان، متمرداعلى المتداول وكافرا بدين النسيان، كاشفا لنا مكنوناته التي أرهقته في الماضي، وهو يسري ويعرج بين أزقة وشوارع مدينة مراكش، يختلس الكلمات والحكايات من رواد ساحة جامع الفنا التي تعتبر المدرسة الأولى التي تخرج منها شاعرنا، ويرصدها في بنك الذاكرة، ثم بشيء من الذكاء مارس علينا عملية الانتظار، إلى حين فاجئنا بهذا المولود، الذي أتلمس فيه ومن خلال عناوينه، أن زجالنا يجس نبض الشارع والقراء، لأن باكورة الذاكرة لا زالت ممتلئة، ولعنة الشعر هي الكفالة الوحيدة التي تفسر لنا كل هذا الزمن المعطل في البوح بكلمات الديوان الزجل.في ديوان" خلي لكلام عزري"، نكتشف روح مدينة مراكش المرحة، التي استأصلتها ليلا خشونة ناس السراب، ونكتشف النكتة المراكشية الهادفة، ونكتشف الزجال وهو يخاطبنا في الاستهلال، بديموقراطية تمنح حرية للمتلقي أو لقارئ الديوان حرية التصرف، وهي حالة غير معتادة في كتاب الزجل، أو ربما هي أنانية الشاعر حينما خير الجميع ويقول:خد لي يفيدك فكلاميولي ما راق ليك خليه للغيرفالدوق ذواق وجول فبحر نضاميوالكلام فيه الخامر وفيه الفطير.. الخ. وانطلاقا من هذه البوابة التي شُرعت على جميع القراءات، بدأ صدق الشاعر المحفوف بتجربة كبيرة في الحياة ومعاناة ملموسة، وهذا الصدق الذي ترجمه شعرا عاميا، وظفه من خلال عبارات تخترق الوجدان وتسائله عن ماهية أفعاله ولماذا هذا الفعل..؟ وانساق بنا في متاهات ليس لها بداية ولا نهاية وليس لها مرسى.. فهو تارة يشغلنا بحبه للطبيعة في قصائد: فين الربيع، فصل الربيع.... وتارة يورط خيالنا انطلاقا من تجاربنا مع المرأة إلى معانقة جسدها في قصائد: الحبيب، الغالط، شوفة مسروقة، لجميل، داز من هنا، الخطبة.... وتارة يدغدغ قلوبنا بآلام الفقد والحرمان من خلال قصائد: أنا ننساك، شمس الدار، لغريب... وتارة أخرى يأتينا بلباس الفقيه الواعظ، والمجذوب الزاهد في الدنيا من خلال قصائد: حكاية الوقت، القلب الصافي، شت ومازال تشوف، الكريم، الزمان، العايش وحدو، ناس الخير، أتكون حديد، يا السامع، الجار، المحسوس، كلها وحالو، المظلوم، ليام، الظالم، وتد الصخر، قلة العقل، يا فكاك، الشكوى لله، مال هاد الناس... وأخيرا يأتينا في صفة رجل ترحال وسياحة في قصائد: الرحلة، الطنجية، سبعة رجال، جامع الفنا...وإذا دققنا في المواضيع التي قدمها الشاعر، فهي تعد إشارات موجهة إلى أكثر من شريحة اجتماعية، لاعتبارات عديدة ارتكزت أساسا: أولا: على ضبط مفاهيم اللغة العامية، وثانيا: الاحتكاك مع التيارات التقليدية ويتجلى ذلك في مناخ السوق الشعبي، والذي يعد مصدر إلهام قوي، وبنك لغوي شعبي لا تنبض تعابيره أو مع الواقع المحيط به من الصناع التقليديين..كل تلك الأساليب تعد مكونا أساسيا لعصبية الشاعر، التي قد تكون أهم المصادر التي ساعدته في تركيب مصطلحات الديوان، ويتضح ذلك جليا من خلال التعابير والكلمات المنقاة في قصائد الديوان، رغم أن الظروف لم تساعده على إبراز الذخيرة الشعرية العامية الجميلة التي يكتنزها في داخله، وهذا ما أدى به إلى إخراج هذا الديوان الذي ربما قد جاء في وقت مبكر، أو بتعبير أصح هي ولادة قبل الأوان، وهذا كذلك يدعونا إلى التفكير الجاد فيما يصارعه ويعيشه الشاعر في داخله، وينازعه في حريته التي تكون قد سلبت سلفا بعد إقرار الشاعر على إصدار الديوان، لأنه ببساطة شديدة، أن كل إبداع أصبح في ملك القارئ.يتضح من خلال قصائد الديوان الزجلي " خلي لكلام عزري" أنه إبداع تلقائي وعفوي، وهذا في نظري لا يخضع لقوانين حتمية في عملية النقد الذي تتحكم فيه أساليب علمية، وما علينا إلى احترام حرية الإبداع لدى شاعرنا عبد السلام البوعليوي، لأننا أمام شاعر فطري سلبته نزواته الشعبية فأبدع، وتجاوز اختلاق الرعشة لدى المتلقي باختلاقه شكلا يلائم حضور المضمون، هو الأهم، وهذا ما يجعل الشعر الشعبي يرقى بمكانته بين صفوف الأجناس الأدبية الأخرى.قصائد الديوان هي قصائد تمتزج بين الضحك البكاء وبين السخرية والجد، وبين المتناول الحرمان، فأي طموح واقعي في تلك القصائد، هو طموح يكون متواضعا، وهذا هو سر حضورها القوي في الديوان.. فهناك أسلوب مباشر وصريح حينما يقول في أول صفحة: خد لي يفيدك فكلامي.. ولي ما راق ليك خليه للغير.. وكذلك في قصيدة الزمان وقصيدة العايش وحدو، وهناك أسلوب يكتنفه اللبس والغموض كقصيدة: يا الناسي المحبة وقصيدة ليام وقصيدة الشكوى لله...وهناك أسلوب تعتريه مناسك الحرمان والحاجة، كقصيدة شمس الدار وقصيدة أنا ننساك وقصيدة لحبيب وقصيدة القلب الصافي.. وما بقي من الأساليب الأخرى إنما هو اتساعا لرؤية الشاعر، كانت في الوصف أو في السخرية...فمن خلال هذا التصنيف للقصائد، نجد أن مواضيع الديوان توزعت إلى خمس أشكال وصور، قد يثيرها أي شاعر أو مبدع ما في قصائده: الطبيعة/ المرأة / الموت/ الموعظة/ الوصف.. وهذا ما جعل الشاعر عبد السلام لا يزيغ عن هذه الميكانيزمات التاريخية والاجتماعية، والتي أبدع فيها بلغة هي أقرب من شخصيته كفنان ومبدع في مجال الصناعة التقليدية، وجاء ذلك رائعا وجميلا، عبر بلاغة زجلية أتاحت لنا مساحة من مراجعة صور كل مكونات الحياة العامة، وفسحت لنا النبش في الذاكرة الإنسانية التي عكسها ديوان " خلي لكلام عزري"، وطفولة الشاعر التي افتقدها بفقد والدته.. فهل أصبح رجلا بفقد الوالدة..؟، فالواحد منا يظل يعيش الطفولة في داخله، حتى وإن شاخ في وجود الوالدين.. وحين يفقداهما فإنه ينتقل إلى مرحلة الرجولة والاعتماد على النفس... لماذا عنوان " خلي لكلام عزري". لماذا هذا العنوان الذكوري الذي يتجلى في كلمة عزري..؟ لماذا لم يأنث الشاعر عنوان الديوان..؟ لماذا لم يكن عنوان " خلي لكلمة عزرية" بدل " خلي لكلام عزري"..؟ وهل عقدة الأنثى ومخلفاتها السلبية والايجابية على نفسية الشاعر والظاهرة في قصائد الديوان، جعلته يتمسح برجولية العنوان..؟ أم هي ظاهرة جديدة تدعى ذكورة عناوين الكتب..؟ أم أن هذا العنوان هو مجرد ليس إلا.. جاء بطريقة تلقائية وعفوية ما دام أن مجموع قصائد الديوان لا تحمله..؟أم أن هذا العنوان لا يعد سوى بريق في الواجهة ينظم عملية النصب والاحتيال على القارئ..؟ وكيف نفسر هذا العنوان الذكوري المكتوب باللون الأخضر وهو يقف على رأس صورة تراثية، تعبر عن آلة طباعة قديمة تجسد في لغتها الأنوثة..؟هي أسئلة متاحة في قراءة هذا الديوان الزجلي، تبيح لنا السباحة في أغوار عنوانه، وفي مسالك غلافه الذي يجسد تناسق جميل، يبدو غير مرتب له في السابق، أو هو إبداع مقصود من طرف الشاعر والناشر معا، وبالتالي فالعملية الإخراجية تكون حاضرة مع سبق الإصرار والترصد، لخلق شقشقات إبداعية حالمة في نفسية المتلقي، رغم الفوضى والتطفل اللذان نترصد هما في الإنتاجات الإبداعية.. هي أسئلة يمكننا جميعا أن نقرأها بقراءات متعددة، من خلال زوايا مختلفة ومتناقضة في نفس الوقت، وهذا اختلاف مشروع، أباحه لنا إدراكنا اللغوي، أو الحب في الشعر والإبداع..لكن يبقى الشاعر عبد السلام البوعليوي، وهو الأدرى منا بحيثيات ومواجع هذه الباكورة الزجلية الجميلة، وهو الأدرى بالمخاض والولادة الشعرية لها.. يبقى له الحق في الجواب عن كل الأسئلة المباحة في هذه القراءة وللقراءات الأخرى التي ستأتي، فقد يهمهم في داخله بكلمات ربما تعيد مراجعة ماهية عنوان الديوان الزجلي الذكوري..فربما يباغتنا يوما ما بباكورة زجلية قادمة يحمل عنوانها صفة الأنثى، وتحمل في طياتها حرائق الوجدان وأوجاع الذاكرة.ويبقى السؤال الجوهري الذي فرض نفسه بقوة على هذه القراءة، منذ البداية وخصوصا في قصيدة الغريب.. هل فعلا يعيش الزجال عبد السلام البوعليوي غربة الشاعر.. ربما.