علم النفس الافتراضي
وتقنية المعلوميات
0672476457
يشهد عصرنا تحولا لم يعرفه أي عصر من العصور السابقة، ويرجع هذا التحول إلى اكتشاف الإنسان لغة جديدة تختلف عن كل اللغات التي عرفتها البشرية، لغة ليست للتواصل بين البشر، بال للتواصل بين البشر وما ابتكره من آلات وبين الآلات والآلات سميت باللغة الرقمية لاعتمادها حروف الأنظمة العددية واختزالها تلك الأنظمة إلى أبسطها وهو النظام الثنائي الذي يعتمد الصفر والواحد!
وبعودة إلى تاريخ صناعة الحواسيب نجد أن أول من حاول تصميم آلة تحليلية شخص يسمى (1792-1871) Babbage في بداية القرن التاسع عشر. فكر هذا الشخص في آلة تتكون من ثلاثة عناصر : الخزان وهو ما يسمى الآن بالذاكرة، والمعمل سمي لاحقا بالمعالج ثم ضم عنصره الثالث مجموعة من نماذج الحركة وهو ما نسميه الآن برنامجا. غير أنه مني بالإخفاق لعدم توفر الكهرباء والعدد الدقيقة لإنجاز مشروعه. وكان على العالم انتظار Hollerith(1860-1929) لترى النور أول آلة حاسبة تستخدم البطاقات المثقبة. وفي سنة 1924 انضمت المؤسسة التي أقامها إلى شركة IBM ثم تسارع تطور التقنيات منذ 1958 بظهور التنزيستور وانطلق ركب التقنيات الرقمية نحو ما وصل إليه اليوم بسرعة مذهلة.([1]) شكل الانسان من تلك الوسائل التي بدأت بسيطة قالبا صب فيه كل حيله ومعارفه الحرفية وبوجود حالتين لا ثالثة لهما في تمرير السوائل والهواء والتيار الكهربائي عبر القنوات والموصلات المعدنية، فقد وجد تطبيقا للقواعد المنطقية، بنيت عليها أسس تقنياته كلها. ثم رجع إلى تدليل الصعوبات التي واجهته في جعل الآلة تتحرك ذاتيا فجزّأ الحركة في الوحدة الزمنية معتمدا على الحالة الطبيعية للجسم الحي إذ وجد أن لا حياة بدون نبض فصنع القلب النابض لكل آلة ذاتية وهو عبارة عن مولد نبضات سماه الساعة وبدأ يسرّع نبض تلك الساعة حتى وصل به إلى ما فاق ما تدركه الحواس بملايين المرات حيث وصلت سرعة الحواسيب الحالية إلى 4000000000 نبضة في الثانية (4GHz) بينما لا تستطيع العين البشرية تمييز الحركة إن تجاوزت 16 نبضة في الثانية! وبذلك استطاع أن يترجم الأصوات والصور إلى اللغة الرقمية وولد عصر جديد هو عصر التقنيات الرقمية. وفيه شهد العالم التحول المبهر على المستويات الفردي، والاجتماعي، والاقتصادي، والسياسي؛ حيث غزت تقنيات المعلوميات كل مجالات حياتنا العلمية والفكرية والدينية والفنية والثقافية والصناعية. وقد باتت الضرورة تفرض نفسها علينا لننظر في ما أنتجته هذه التقنيات الحديثة وندرس أثره على الإنسان في العصر الحالي وما يمكن أن تتمخض عنه التطبيقات في المستقبل القريب على أقل تقدير. ذلك، لأن النشء وما يحيط بتربيته من تحديات، يضعنا أمام مسؤوليات جسيمة مفروضة على مجتمعنا ولم تنشأ منه، ونحن لا نمتلك في مواجهة كل التحديات سوى ما خلفه لنا سلفنا من قيم وأخلاق هي أغلى ما سيحاسبنا عليه خلفنا إن أضعناه و سيحاسبنا عليه ربنا إن فرطنا فيه، فهو أقوى سلاح لنا في معترك الحياة نحن ملزمون شرعا وقانونا أن نورثه للأجيال القادمة.
وقد دخل الإنسان عالما مدهشا غريبا على العقل البشري منذ أواسط القرن الماضي؛ عالما تسوده حُمى التسارع التقني، تَوّجته ثورة الاتصال خلال العقد الأخير منه. مما جلب تحديات جديدة بدتْ تواجه الفكر الإنساني الذي اعتاد على سير الفنون والثقافات على منعرجات الحياة البطيئة في تشكّل ألوانها، وإفصاحها عن أسرار تفاعلاتها التي كانت تطمر غالبا في غياهب تاريخ ظل يفتقر إلى الموضوعية لمئات القرون !
ووجد المجال الإبداعي في التقنيات الحديثة فرصة للتوسع والانفتاح على مشارب عديدة ومختلفة، فأُخذ بنوع من النشوة أفقدته التوازن تحت تأثير موجة "الوسائط المتعددة" بما حملت من صور وأصوات وبما أتاحت من وسائل مهّدت الطريق أمام انتشار سريع للإنتاج الإبداعي بكل أصنافه. وبدأنا نشهد تسارعا يلبس تداول المعلومات بين بني البشر، ويمد تأثيره في حياة الناس إلى مدى لايزال مجهول النتائج ... أصبحالناس يبنون مجتمعا افتراضيا لا يتطلب الانتماء إليه أكثر من تعلّم الضغط على زرّ تشغيل جهاز الحاسوب، وتحريك "الفأرة" على بساطها الناعم، بل تعدى اليسر إلى أبسط من ذلك! وأشخاص هذا العالم أحرار في التعبير عن ذواتهم وآلامهم وآمالهم. يرتبطون بعلاقات قد ترقى إلى المستويات المبشّرة بغد سعيد للبشرية، وقد تتدنى إلى هوة لا قرار لها في مستنقع أبشع من أن يتصوره ذو عقل.
إلا أن الصورة المتفائلة التي نحلم بها من السلم والمحبة والتضامن، والتي نشأت بمحض إرادة كل من الأفراد الافتراضيين سعيا وراء تكوين المجموعة المتآلفة –حسب رأي الأفراد- ما تلبث أن تستجيب للنزغ الدفين من حاصل العيوب الموروثة من عالم الواقع، فتخبو شعلتها بفتور الحماس الجماعي الناشئ عن خصائص سيكولوجية الجماعة، وتتبخر إرادات الأفراد المشتركة في عالم لا محدود من العوامل منها مايحدث أثرا واضحا على المجموعات المؤتلفة حول محور فكري أو أدبي ما، لأن سهولة التجول من موقع إلى موقع أو منتدى آخر يعتمد شكلا دعائيا أكثر جاذبية أو يضم مجموعة أكثر نشاطا في عملية التفاعل بين أفرادها، تستأثر باهتمام الزائر وتجعله يميل إلى الدخول في جو أوسع وأرحب من التواصل مع أنداده الافتراضيين. وهذه ميزة لا وجود لها في العالم الواقعي إلا ضمن حيز ضيق... إذ ليست هناك قيود تفرض على المبدع – المؤلف – ولا على الزائر الافتراضي إلا تلك التي يفرضها على نفسه مع الاعتراف بأن شخصية المبدع تتسم بالنّزوع إلى التحرّر من القيود وإلى التحليق بأبلغ معاني الحرية في فضاء أرحب وأوسع، فالمجموعة التي يخيم عليها جوّ الرتابة بين كثير من الخطوط الحمراء وتفتقد عنصر الدهشة في ما يُتداول بين أفرادها، وتصبح قيدا من الروتين في نظر الشخص الافتراضي مما يجعله في بحث دائم عن فضاء فسيح لا قيود فيه ولا مسببات للملل. ولم يسجل التاريخ في السابق أرحب من فضاء التفاعل الافتراضي الذي نعيشه اليوم، فقد أدِنت الشبكة بعصر انهيار الحِجْر الذي كان مفروضا على التعبير الفني وبثّت روح الآنية والحيوية في انتشار الخبر، ومهّدت طريق المعلومات إلى متناول من يطلبها فحوّلت العالم المترامي الأطراف إلى غرفة، وصنعت في الأرض فضاء يموج بأنواع الحوارات واللقاءات والمواعيد والندوات المفتوحة لمختلف الأغراض والمآرب البشرية بما فيها من سامي الأفكار وسخيف الأقوال والتصرفات، فبانت علائم حرية لم يعهدها البشر من قبل في اختيار مشربه في خضم الزخم الهائل مما يعرض في سوق لا أول لها ولا آخر...
غير أننا نجد العالم الافتراضي قد ورث من عالم الواقع كثيرا من الظوهر السلبية حيث ظهر القراصنة والنصّابون إلى جانب المفكرين والأدباء والفلاسفة؛ مما بات يدعو إلى التفكير في سنّ قوانين لتنظيم سلوك المجتمع الافتراضي للحدّ من الظواهر السلبية فيه! و ستظهر إشكالية جديدة تتمثل في تحديد الشروط اللازم توفرها في من يحق له وضع القوانين والإجراءات والمساطر والجزاءات الرادعة لمن يطلق عليهم اسم المخالفين للقواعد والخارجين عن خطوط النظام الافتراضي. ومثلما تعوّد الفلاسفة والمفكرون الغربيون اعتماد الكتب المقدسة ترجع إلى كتاب واحد وردت فيه والصايا العشر، هذه وصايا سماها صاحبها المدعو "آلن ريو" بالوصايا العشر لمعرفة "كيف نعيش افتراضيين أعدها واعتمدها معهد Computer Ethics Institute وهي منشورة بموقع خدمات الشبكة وهي عبارة عن ثمان لاآت يتلوها أمران ([2]):
2 -1 لا تستخدم الحاسوب لتزعج غيرك
2 -2 لا تشوش على أعمال غيرك الرقمية
2 -3 لا تعبث بملفات الآخرين
2 -4 لا تستخدم الحاسوب للسرقة
2 -5 لا تستخدم الحاسوب لشهادة الزور
2 -6 لا تستخدم ولا تنسخ البرامج مالم تدفع ثمنها
2 -7 لا تستخدم مصادر المعلومات المملوكة لغيرك دون إذن منه
2 -8 لا تنسب لنفسك إنتاجا فكريا مما أبدعه غيرك
2 -9 عليك أن تقدر الآثار الاجتماعية للبرنامج الذي تكتبه
2 -10 استخدم الحاسوب بطريقة تؤكد لك التقدير والاحترام
لم يبيّن صاحب هذه الوصايا الكيفية التي تطبق بها في الحالات المختلفة التي تنجم عن التفاعلات البشرية المتباينة، وذلك لهدف التمويه واللعب على الألفاظ وفتح باب اختلاف التفسيرات حسب الحالات التي تخدم مصالح من يسخّر التقنيات لاكتساح ساحة السوق الاستهلاكية.
ويبقى العالم الافتراضي في جدّته مُحيّراً ومدهشا آخذا في الاتساع ليستوعب كل النشاطات البشرية وقد يشمل الكائنات الذكية المفكرة في الكون كله يوما ما...
هنا تبرز ضرورة وجود علم يدرس التفاعلات البشرية في عالمها الجديد الذي أضحى افتراضيا مثلما دعت الضرورة لوجود قواعد قانونية نتظم مجال الحريات وكيفية ممارستها في العالم الجديد وكذلك تستدعي الحالة رسم خطط لتعليم الأطفال وتربيتهم وإعداد برامج أخرى لتكون الجسر الواصل بين العالم الافتراضي وعالم الواقع. ويهمنا هنا التركيز على علم يدرس سلوك الشخص الافتراضي في تفاعله مع الأفراد والجماعات عبر الشبكة الدولية للمعلومات (الإنترنت). ويعدّ آليات مناسبة لفهم التطابق والفوارق إن وجدت بين أنماط السلوك في الواقع وأنماط السلوك البشري في العالم الرقمي.
فعلم النفس الافتراضي يتناول دراسة الشخصية الرقمية كفرد يدخل عالمه الجديد مزودا بمعارف ومهارات استقاها من عالم الواقع؛ أقلها قراءة وطباعة اللغة التي يتعامل بها الفرد مع أشباهه على الشبكة ومهارة استخدام لوحة المفاتيح والفأرة. بل إن هناك من التطبيقات التي تستغني عن بعض حواس الفرد الطبيعي مثل التجربة التي مرت بها الانتخابات في البرازيل سنة 1996 بمدينة سانتا كاتارينا حيث درست إمكانية مشاركة الطاعنين في السن والأميين وفاقدي البصر في الانتخابات عبر منظومة رقمية كانت نتيجتها أن 25 بالمائة من العميان استطاعوا الإدلاء بأصواتهم للمرشح الذي يؤيدون نجاحه في الانتخابات وأقل من 50 في المائة من الطاعنين في السن تمكنوا من التصويت لصالح مرشحهم بينما ألغت المنظومة باقي الأصوات المعبر عنها بطريقة غير متوافقة مع برنامجها.([3])
وقد نبعت تسمية دراسة هذا المجال "علما" من ضرورة وجود وسائل تدرس سلوك الفرد الرقمي – الشخصية الرقمية أو ما اصطلح على تسميته بالشخصية الافتراضية – اعتمادا على الإحصاء وطرق علم النفس التجريبي وما وصلت إليه الفروع الأخرى لعلم النفس وعلم الاجتماع والعلوم القانونية، وما أسفرت عنه البحوث في العلوم الإنسانية من نتائج خلال القرن الماضي، وما تنبأت به من تأثير التكنولوجيا على حياة البشر في تفاعلهم البيني ومع الآلة سواء كأفراد أو جماعات.
وقد يكون لهذه المحاولة نصيب في تفسير سلوكات الناس في العالم الواقعي التي ما زال العلماء يلقون حولها بافتراضاتهم آميلين أن ينير دربهم مجال التجربة. ولا أحد ينكر ما يواجه علم النفس من صعوبات في دراسته للسلوك البشري نتيجة تعدد المتغيرات من جهة، وعدم ثبات الظواهر أمام المجرب – الذي يتأثر هو أيضا بما يجري في ظروف زمانية أو مكانية للتجربة من حيث هو إنسان أيضا – من جهة أخرى.