اعتكفت، مرة أخرى في احدى زوايا غرفة النوم، لا يؤنسها في وحدتها سوى سجادة وسبحة،تطيل سجودها لتعذب شيطان الزمن وتبكي...علّ الدموع تبوح بما يعجز اللسان عن نطقه...
تأخذ من لحظات تأملها الطويلة استراحة، فترسم على وجهها ابتسامة مصطنعة، لتتفقد طفليها الحبيبين،فتخدر مشاعرها برهة وهي تقبل جبين النائمَين...لتعود، وهي تتضرع لله أن يلهمها جرعة أخرى من صبر طلقها ثلاثا.
نامت برهة، أو لعل جسدها المنهك أوحى لها بذلك،ثم تنبهت لصوت الباب يفتح،سرت في أوصالها الرعشة اللعينة تلك،وأخذ قلبها يدق بسرعة...سمعت صوته المبحوح يلعن ويعربد كالعادة،فدفنت رأسها بين الوسائد حذر البكاء...
دخل زوجها محمر العينين ثملا، وهو يلعن البلاد والعباد،اقترب منها يسحبها من السرير ويطالبها أن تكون امرأة...أن تجهز له وجبة لن يأكلها، لكنه يمعن في التعذيب لإذلالها...تذعن خوفا على أبنائها والفضيحة، وتتوسله أن يهدأ، فما يزيده ذلك الا تعنثا...
تمر سويعات قليلة قبل أن يستسلم السكير لنومة وليدة الموت،لتنهض من جديد نحو سجادتها والسبحة، تحكي لهما عذاب السنين...
يمر شريط حياتها برقا أمام عينين جميلتين أذبلهما دوام السهروغزارة الدمع، فتتذكر حياة سابقة وحبا أول...تتذكر كيف كان زواجها محض الواجب، كبرت وتوظفت، فتزوجت، تلك سنة الحياة، فرض عليها ان تترك من تحب لأنها في مجتمع محافظ...يحافظ على حكم الاعدام لجنس دون آخر...تزوجت راضية وفي نفسها قناعة الحب بعد الزواج، فأسلمت نفسها لزوج حنون طيب،بسيط التفكير...هكذا كان قبل أن تطفو على السطح مراهقة الكهولة، فيقرر أن يعاقر الخمر متأخرا،ويقرر أن لا واجب يربطه بزوجته، ليقطع بها وبأبنائه كل صلة...يغيب نهارا في العمل، وليلا مع أصدقاء السوء...
تحاول جاهدة ان ترسم له في خلدها ذكرى محبة صافية فلا تستطيع،لتغلف حرقتها بالدعاء والصلاة.
لم تكرهه رغم تقصيره في كل شيء...فراتبه بالكاد يكفي نزواته الجديدة، وقدرته على إرضائها صارت معدومة تماما، ليعوضها بكثرة الصراخ والتعنث...لكنها صبرت، صبرت من أجل فلذتين من كبدها نذرت لأجلهما بقايا روح...
كبر الأبناء، وصار لكل منهما حياته بعيدا عنها،ومات الزوج...لتبقى، مرة أخرى، وحيدة بين جدران باردة،لا يؤنس وحدتها سوى سجادة وسبحة...تطيل السجود لتعذب شيطان الزمن وتبكي...أن لم تعش لأجلها قط.