يبدو أنني غفوت قليلا
قوة الخوافي
هذا الصباح، استيقظت، كالعادة، باكرا، الطقس بارد جدا، عدت إلى الفراش، لكن النوم كان قد غادر !
لأمر ما، امتدت يدي إلى: مجموعة، أخاف من... للقاصة لطيفة لبصير.
تمليت بالغلاف، بالصورة تحديدا ثم رحت أقرأ: "يبدو أنني غفوت قليلا..." ماذا أقول؟
رائعة جدا هذه القصة ! كان هذا انطباعي الأول.
كنت دائما أحب الواقعية؛ في الحديث، في اللعب... وفي الأدب. اليوم اكتشفت أن آفاق الكتابة التي تمتح من الواقع واسعة جدا، وأن قدرتها على الإدهاش تفوق أحيانا الغرائبي/ العجائبي نفسه !
لم لا أقترب أكثر؟
هل أناوش النص من داخله؟ قلت، لم لا أفكر في الاختيارات الاستراتيجية التي يبدو أن المبدعة قد حسمت فيها
بمجرد انطلاق القراءة التلفظية الأولى يتبين أنها اختارت، عن وعي تام، أن تبدأ من نقطة معينة: وجود امرأة حامل على شفا وضع شاق وعسير، في غرفة للولادة "حيث عربات حديدية تعبر الممر، وزجاجات فارغة وقنينات تحتوي سائلا أحمر..." لحظة رهيبة مفتوحة على كل الاحتمالات؛ الأسوأ الأليم أو الأحلى البهيج
بالتوغل في قراءة النص نكتشف أنها اختارت عدم ذكر أسماء الشخصيات مكتفية بالصفة أو نوعية القرابة
كما نكتشف أنها وضعت زجاجا سميكا حول قصتها حتى لا تقرأ كشذرة سيرـ ذاتية.
أعتقد أنها حسمت أيضاً مسألة أن تكون النهاية، في مقابل البداية، دافئة ومبتهجة فنيا وواقعيا كان هذا الاختيار، من بين اختيارات أخرى، هو الأنسب.
أيضاً، السرد بضمير المتكلم بحيث تقلصت الهوة بين السارد وبين الكاتب حد التماهي، مع امتياز طفيف وعنيد للسارد دفعا من المبدعة لوهم السيرـ ذاتي، كما سبق، وانتصارا منها لقصصية النص، والفاصل بينهما خيط رفيع مغزول، بدقة متناهية وحرفية استثنائية.
الوصف بالحواس وهي في منتهى دقتها رغم الإكراهات المتنوعة، أساسا العين بكل قدراتها، وفي كل أوضاعها؛ والأذن بكل رهافتها، وبالذاكرة الموشومة بلحظات الولادات اللذيذة التعب. كل ما يؤثث الفضاءين يحضر في النص بالأسماء المألوفة المتعارف عليها؛ يحضر ليؤدي وظيفته التي تجند لها خدمة للحدث الجلل، جلل لأنه محور وجود كل شيء؛ الناس والأشياء، الحركة والتوقف، كل ما هو مادي أو معنوي على حد سواء: حياة مهددة بالرحيل المبكر، وحياة قادمة بدون ضمانات أكيدة للاستمرار
إلى جانب كل من السرد والوصف المتماهيان بفنية، يظهر الحوار هنا وهناك في اللحظات المناسبة: لتكسير السرد، لضخ طاقة جديدة لنمو القصة، لنقل المتلقي
الفاقد لإرادة التوقف بفعل حدة التشويق ولذة البوح المحكي إلى عين المكان أو فلتة الزمان ليشهد أن تطور الأحداث نحو المجهول المخيف لا يسمح بالأحاديث الطويلة المهلهلة. تحضر الحوارات مقتضبة/ خاطفة، مقتصدة حد البخل، لا الوقت
يسمح، ولا الطاقة فائضة عن الحاجة قبل بداية الانفراج وعودة الأمل أو لأقل، انتصار الحياة على خطر الموت
اختارت المبدعة باقتدار لعبة التوازن بين الحدث الجديد الجلل، وبين معادله الجميل البهيج الثاوي موشوما في الذاكرة... وهو توازن تمت هندسته بعناية فائقة:
ـ الحاضر ثقيل وبطيء ومؤلم، والماضي خفيف منساب دافئ ومبهج.
ـ الشخصيات في الحاضر موزعة بين مريضة واهنة أو متوترة.. وهي هناك هادئة مطمئنة ونشيطة.
ـ المكان كئيب ومخيف وهو هناك فسيح وآمن.
هذه المفارقة العجيبة بين دعامتي النص، ستتحول، بفنية عالية، إلى عنصر قوة في القصة بحيث تجند المبدعة كل مكونات الدعامة الأقوى وتستدعيها في الوقت المناسب لدعم لحظات الوهن الحاضرة ومنعها من التهاوي أو السقوط...فجاء النص مضفورا، ليس بإحكام فقط، وإنما بلمسة جمالية رائعة
قائد الأوركسترا في هذا كله حس الأمومة العالي! كل ذرة في شخصية المرأة المرشحة لعملية توليد قبل الأوان مجندة.. ولا بد من حرفية عالية في كتابة القصة لتلتقط كل تلك الذرات و تصنع منها إبداعا انكتب بدمها وعرقها وخوفها وفرحها وو... وتقدمه شيقا ولذيذا لقارئ تأمل أن يكون، على الأقل، منصفا وعادلا، إن لم يكن متعاطفا ومتذوقا.
بآخر جزء من الجسم راوده التخدير دون أن يتمكن منه (الرأس) تحاول المرأة/ الأم أن تلتقط كل شيء ولو كان صمتا، تقرأه ..تستوعبه.. تحلله.. وتقول كلمتها، تقولها في ظل زمن وجيز متفلت، وتحت ثقل وهن عام شل كل المفاصل وكل العضلات، بل وحتى الرموش.
لا يمكن لمبدعة فنانة أن ترسم لوحة بهذه الحدة، وبهذا التوتر، وبهذا العمق، لوحة يتجاور فيها خطر الموت المحدق بإرادة الحياة الغريزية دون حضور الألوان. لمن يجيد قراءة الألوان في سياقاتها أن يحفر في هذا العمق. شخصيا ألاحظ أن الشخصية تختزن نوعا من كراهية "مبررة" للأبيض، و حياتها وحياة الجنين/ فلذة كبدها بيد ذوي الوزرات البيضاء! مفارقة حارة جدا في النص!
الأذن تلتقط خلافا بين صوتين حول: هل هو وردي/ حي ممدود بالأكسجين، أم أزرق/ ميت اختناقا، ويحسم الخلاف لصالح الوردي الذي يضحى
un beau bebe rose.
كم لك أستاذة لطيفة من سر في الألوان؟ أشرقت القصة بحسن توظيفك للون، وتحققت لا محالة، لذة القراءة الفاحصة لدى القارئ.
في إطار الاختيارات الاستراتيجية دائما، تختار القاصة التخفف من المحسنات، وتتفادى التصنع والتنميق ، بل أكثر من هذا، لم تراجع أيا من القواميس اللغوية المعروفة وإنما غرفت بعض مفرداتها ( يد المهراز، الصويفة، النكليز... مثلا) من المتداول المألوف بين الناس ووظفتها بلباقة وجرأة في الموقع والسياق المناسبين؛ فجاءت منسجمة، دالة وفيها حلاوة آسرة..ينضاف إلى هذا انتقاء التعبير الأكثر صدقا وتأثيرا لاحظ هذا المقطع: "...ألبسوني وأوقفوني بصعوبة، كنت أستغيث وأنا أضغط على الأرض، خفت أن يسقط الجزء السفلي من جسدي، ظننت أنه ما زال مبتورا..." شيء ثالث، كثيرة هي الجمل القصيرة التي عشقت مكانها حين يتطلب الأمر الإيجاز، و لا نشاز إن تناوبت مع جمل أطول نسييا حين يتطلب السياق ذلك.
طرحت أعلاه هذا السؤال؛ هل أناوش النص من داخله ... أرد الآن؟
كلا، القصة، في نظري، ناحجة بكل المقاييس وفيها من الإبداع ما يشفي الغليل، و النهايه مبهجة ودافئة كما سبق...سأكتفي بطرح سؤال أرقني: لماذا لم تذكر القاصة أسماء الشخصيات؟
عفوا ! وماذا عن العنوان؟
العنوان، يقينا مني، هو اللذة الخالصة للقصة! نعم لقد آثرت المبدعة أن تجعل " غفوتها " باعتبارها ألذ وأعذب وأخطر لحظة أثناء عملية الولادة سمة للنص/ هدية منها للمتلقي، ولا مَنٌ ! شكرا ذة. لطيفة، أحييك، استمتعت بقراءة القصة.
ذ. عبد الرحيم العراقي
النص: يبدو أنني غفوت قليلا... من المجموعة
القصصية: أخاف من... لطيفة لبصير
الطبعة الأولى 1431هج ـ 2010م