كلما اشتركت في ندوة أدبية، يزداد فزعي من التفكك الثقافي الذي نلجه بسرعة غير عادية، دون ان تطلق صفارات الانذار ابواقها محذرة منبه.
احيانا لا اعرف لماذا أصر على المشاركة في الندوات، هل هي عادة تلاشت ايامها ؟ مرض عضال لا علاج له؟
اعترف ان مشاركتي في بعض الندوات ، تثري روحي ان لم تثر معرفتي، بعضها اشارك بها رقما او جسدا يملأ بعض الفراغ،بعضها اسقطها من حسابي حتى لا اصاب بإكتآب ، حين اجد انها تكرار بالأسماء وستكون تكرارا غبيا بالنصوص، حتى لو اختلفت مواضيعها. حيث يأخذ بعضها طابعا مغلقا يمكن تسميتها "بندوات سرية".
شاركت قبل ايام بندوة حول كتاب لأديب صحفي، جاد ومثابر، لا اريد الحديث عن الندوة مباشرة، وعن تشابه الكلام ، وتنافس المتحدثين في ابراز مواهبهم في التقييم الايجابي ولا شيء غيره لدرجة ان كل المداخلات متشابهة في المضمون. هذا حقهم ولا اعتراض لي عليه ولكن ما لفت انتباهي ان الندوة تحولت عن الكتاب الى الشخص. من ناحية الشخص هو الوجه الآخر للكتاب، ولكنه ليس موضوع الندوة. تمنيت أن أسمع تقييما نقديا، تقييما اسلوبيا، فلم اسمع الا كلمات معادة باساليب مختلفة باختلاف المتحدثين.الا ان احد المتحدثين ذكر امرا جديدا، بان لغة الكتاب هي لغة الصحافة نتيجة كون الكاتب صحفيا تأثر بلا شك بلغة الصحافة.ولم يرد من المتحدث أي اضافة حول لغة الصحافة التي قد تفهم من قبل الجمهور المشارك بشكل سلبي وهو ما سأتطرق اليه ببعض التفاصيل في مقالي هذا.والموضوع الأخر الذي طرح، حول وسائل الإعلام العربية في اسرائيل، وهبوط مستواها المتواصل.وهو موضوع يستحق دراسة جادة.
لا اعتراض على اهمية ما طرح بشكل عام عن الكتاب والكاتب، انما التماثل لدرجة غياب كامل للتقييم الأسلوبي للكتاب مثلا، او لفهم الانتماء الأدبي لنوع الكتاب،او تقييم النصوص نقديا، هي ظاهرة سلبية، ثم جرى التركيز على الكاتب، بشكل مبالغ أضاع الهدف الجوهري من الندوة لدرجة ان الندوة انحرفت عن موضوعها ( الكتاب) الى موضوع الكاتب ومواقفه وآرائه، واعتقد ان أكثرية المشاركين لم يجدد لهم هذا الشيء أي جديد.الكاتب صفحة مفتوحة بنصوصه، بمقالاته وما يطرحه من مواقف في صحيفته.
لم نحضر لنصفق ، بل لننمي معرفتنا ونثري ثقافتنا.ولا انفي اني من المعجبين باسلوب الكاتب واتجاهه الأدبي، هذا لا يعني ان العمل قد تم وأكتمل.
ضمن المراجعات المتشابهة والحوار مع الكاتب، طرحت قضايا ثقافية يشكل كل منها موضوعا لندوة او أكثر. للأسف لم تلفت انتباه المشاركين في الندوة او الحوار.
قبل تناول موضع لغة الصحافة، وملاحظات حول الواقع الاعلامي المحلي، اود الإشارة الى قضية مقلقة جاءت في بداية مقالي: "فزعي من التفكك الثقافي".
استطيع ان اقول بشكل قاطع ان الغياب الكبير بين الجمهور كان لعنصر الشباب والطلاب، بمعنى آخر ، الجيل الناشئ مشاغله بعيدة عن الثقافة والفكر والمعرفة بكل فروعها.هذا انطباعي ليس من الندوة او الندوات التي اشارك فيها، انما من احتكاكي بالكثيرين من الطلاب والأجيال الشابة.
كيف انحدرنا الى هذا الوضع؟
هناك اجابات واجتهادات كثيرة، ولكن الموضوع يجب ان يلفت انتباه المختصين في التربية وعلم النفس وعلم الاجتماع ، وان يلفت انتباه منظمات الشباب ( وأكثريتها حزبية) التي كانت منبرا للتوعية والمعرفة وأصبحت مجرد تنظيمات بلا مضامين ثقافية وبلا توعية واثراء ذاتي فكري وسياسي.
مقاهي الأرجيلة أصبحت في ايامنا منتديات للضياع واختلال المعايير . اطلاق دخان الأرجيلة في الفضاء العابق داخل المقاهي أهم من الثقافة، أهم من الوعي الثقافي ، الاجتماعي والسياسي . الى أين ينحدر مجتمعنا؟ أي مصير نحث الخطى اليه دون فهم ودون وعي اولي؟ هل بالصدفة اذن ان عدد القراء في انحدار سريع؟ الكتاب الذي لا يوزع مجانا يتراكم ورقا للحرق في صناديق صاحبه؟ او عليه ان يتحول الى تاجر، ليسدد خسائر الطباعة. مؤسساتنا المدنية غائبة، مؤسساتنا الرسمية ما يشغلها لا علاقة له بما ذكرت. حتى برامج الأحزاب والقوائم الانتخابية التي تطفوا على سطح النشاط في المواسم، تطرح رؤية صحيحة في برامجها، ولا تعمل على تنفيذها.وربما من يصيغ البرنامج ينسخ البند الثقافي دون ان يعرف ماذا تعني الثقافة!!
حول لغة الصحافة.
الخطا الشائع لدى بعض المثقفين أيضا، ومنهم كتاب وشعراء ، يعطيهم الوهم ان هذا التعبير لغة الصحافة يعني لغة ما دون الثقافة.ولو راجعنا اعمالهم الكتابية، لما وجدنا الا لغة الصحافة.
ما هي لغة الصحافة؟
في حوار رائع ، من أجمل وارقى ما قرأت في ثقافتنا العربية بين العملاقين الخالدين ، الأديب الموسوعي مارون عبود، والشاعر الكبير نزار قباني، تمسك مارون عبود بالشكل الكلاسيكي للقصيدة ، وأصر نزار قباني على الشكل الحديث. لم يكن النقاش مجرد خلاف على الشكل، انما تضمن أيضا لغة القصيدة ، ومعروف ان نزار قباني هو الشاعر العربي الذي جعل الشعر في متناول وفهم حتى أبسط الناس . فهل نستطيع ان نقول ان لغة نزار قباني الشعرية هي لغة " غير أدبية " لأنها قريبة جدا من لغة فصحى بسيطة يسميها البعض "لغة الصحافة"؟
هي بلا شك لغة بسيطة بمفرداتها ، متدفقة كالماء بصياغاتها ، وهي من النوع الذي اتفق على تسميته بالسهل الممتنع . ان شاعرية نزار فوق أي نقاش ،ولا أظن انه يوجد شاعر مقروء في العالم العربي حتى اليوم أكثر من نزار قباني .. حتى شاعر عملا ق آخر مثل العراقي مظفر النواب ، أذهلنا بشاعريته ، ووضوح صياغاته وسهولة الاندماج مع أجوائه بلغته العادية وغير المعقدة رغم ثراء لغته ومفرداته وعالمه التراثي الواسع ... وهي اللغة العربية التي يسميها البعض " لغة الصحافة " بسبب مفرداتها وصياغاتها السهلة.
ان لغة الصحافة ، هي اللغة ذات المفردات الأكثر استعمالا وفهما في محيط اللغة العربية الواسع .ربما هذه التسمية " لغة الصحافة " هي تسمية خاطئة، ولا تعبر تماما عن الواقع . انا أميل لتسميتها ب " الفصحى الحديثة السهلة" كمميز لها عن الفصحى الكلاسيكية ( يبدو ان هناك اكثر من فصحى واحدة). وفي الوقت نفسه أرى ان اللغة في كل زمان ومكان يتحدد شكلها وثروة مفرداتها ، حسب معطيات العصر نفسه .
ان اللغة جسم حي ومتطور باستمرار ، ولكل عصر لغته ، مفردات ومعان ومناخ ثقافي وفكري، وما يسمونها اليوم " لغة الصحافة " هي في الحقيقة اللغة الفصيحة السهلة المعاصرة الأكثر سرعة في التكيف مع الواقع والأقرب للمناخ الثقافي المعاصر..
ملاحظة عابرة حول موضوع واقع الاعلام العربي، وساعود للموضوع بتوسع.
تكاثرت الصحف ، وتحول الكم الى نقيض المقولة الفلسفية الديالكتيكية عن "تحول الكم الى كيف".
ان الإشكالية الجوهرية حسب فهمي، هو فقر الصحافة العربية المحرومة من حصة عادلة من الاعلانات الحكومية، ومن تجاهل الشركات الكبيرة التي تسوق بضائعها في الوسط العربي من تخصيص حصة نسبية تلاءم نسبة المواطنين العرب في دعايتها.
على الهيئات العربية بكل تنوعاتها،ان تطرح هذا الموضوع على رأس سلم اهتمامها اذا ارادت ان تتطور لدينا وسائل اعلام تستحق هذه التسمية. ولن اخوض في اهمية وسائل الاعلام في المجتمعات الحديثة حيث توصف بالسلطة السابعة.
الجانب الثاني يجب ان نعي ان ادوار وسائل الاعلام تتغير،الصحافة المطبوعة خاصة، التي تشكل القسم الأبرز والأكبر في اعلامنا المحلي، ما تزال تعمل بعقلية الاعلام الكلاسيكي للصحافة المطبوعة كإعلام اخباري.
الصحافة المطبوعة تحولت من صحافة اخبارية لصحافة خدماتية.لا يمكن منافسة الاعلام الألكتروني في ملعبه. هنا المشكلة الكبرى بحيث يبدو الخبر في الصحافة المطبوعة كتسجيل تاريخي .
الموضوع كما اسلفت يحتاج الى مراجعة خاصة ، سبق ان تطرقت اليه وساعود مرة أخرى برؤية متجددة.