خرج لقضاء بعض حاجيات المنزل فسمع صوتا قادما من عنق الدرب يردد بصوت قوي : في سبيل الله,,,,؟؟؟رجل كهل وجهه شاحب نحيف يضع على راسه قبعة حصاد صفراء متآكلة من الامام , ثيابه رثة تحتلها بقع شديدة الاتساخ,,, يسعل ويسعل وهو يحمل على ظهره كيسين اثنين يجمع فيهما ما جادت به ساكنة الدروب التي مر بها ,
(في سبيل الله,, ,,,) وضع يده في جيبه يبحث عن شيء يتصدق به عليه , فوجد ثلاثة دراهم,,, فهي تكفيه لشراء قرصين من الخبز للاولاد ,, لم يجد غيرها ,فأخرج يده متحسرا ,,وهوينظر اليه بعينين جاحظتين يغمرهما الامل في الحصول على شيء ,,,لكنه حسم أمره وأنصرف عنه الى الحانوت ,,, تردد في الاحسان اليه والتردد في الخاطر الأول بخل ,,, هكذا سمع جدته (صفية ) تقول ,, لم يتردد في الخاطر بل تردد في الفعل أيضا,,,فهو يعرف أنه بخيل أصيل وقد يكون بخله هو مصدر فاقته وحرمانه من نعم كثيرة مرئية وغير مرئية ,وهو لا يدري,,,,
في الاتجاه المعاكس برز رجل ليس من أهل الحي , وسيم بلحية بيضاء مهذبة ,كل لباسه بياض من جواربه الى قب جلبابه ,,,سلم عليه ونظر طويلا في المتسول السقيم الذي تضاعف سعاله وأخد يرشح ويمسح مخاطه بيديه ويحكها مع الحائط القريب منه , فسمع الرجل الابيض يردد كلاما مبهما لم يلتقط منه سوى كلمة : استغفر الله العظيم ,,,,رد عليه السلام,,, وطرق رأسه أرضا ومر مسرعا الى الحانوت القريبة ,,,,كانه صادف في طريقه شيطانا, فكرفي جدوى إستغفار الرجل في مثل هذه المواقف الانسانية الحساسة,, ركن الى نفسه يسألها لو كان ولي المدينة الفاروق فهل يقدر على إبعاد الفقر و التسول الذي اغرقها في وحله,,,,,,,حيثما حل وأرتحل حاصرته الايادي النحيفة الممدودة وصادفته الوجوه الشاحبة,,,,, تذكر ان الفاروق نفسه قد فشل في حمل المسؤولية, الم يقل يوما...( لو كان الفقر رجلا لقتلته ),,,,,
إصطدمت عيونه السوداء الضيقة بفرقة من المتسولين تصطف على باب حانوت محماد( الشلح ),,,,,,,,,,,,,,,,,,
كل يستعطف ويسعى بطريقته الخاصة ,,تامل في وجوههم وفكر كم من الاستغفار سيكفي الرجل الابيض في هذا الموقف الجديد,, سخرت نفسه منه وهي تعرف بمكنونها ومنزلته العالية في البخل فانهالت عليه بالتوبيخ ,,,تعيب عليه شحها,,,
شد همته واشتري خبزتين للمنزل بالدراهم الثلاثة بينما إقترض أخرتين لاجل التصدق بهما على المتسول العليل الذي كان يطارده ,,, سجل محماد مندهشا الثمن في كناش السلف الصغير بسرعة ,وهو يفترسه بنظراته ويضحك في نفسه,,ودلف هو الى خارج الحانوت حاملا الخبزتين ينوي الجود بهما ,,لكن الرجل الابيض كان هناك,,, يتوسط حلقة يفرق الدراهم على المتسولين بسخاء ناذر,,, يبتسم في وجوههم و بيده صرة بيضاء كبيرة,,,كلما امتدت اليه يد الا ومنحها من الدريهمان بغير حساب,,, كان الكل سعيدا ,,,فغمروه بافضل الادعية,,ودد لو كانت تلك الادعية من نصيبه,,, بهره الرجل الذي كان يكون لوحده هالة كبيرة تحف بالمكان ,,,ظنه قد راقبه واطلع على خاطره فتتبع خطواته , وظن انها مجرد صدفة كشفت سره ووضعته في ورطة هذا الصباح المنحوس,,,حامت به الظنون,فأحس بنفسه تصغر وهمته تتقزم امام الرجل الابيض ,,,تسلل خلف الحلقة واضعا الخبزتين في يد المتسول العليل,,, وغادر مسرعا باب الحانوت في صمت .. لكن الرجل كان ثابتا في مكانه يتابعه بنظراته الكاشفة وهو يجود بالدريهمات ,,,,,,,,و يردد نفس الكلام المبهم الذي لم يلتقط منه سوى كلمة :
** أستغفر الله العظيم **