السجن أحب إلينا ...
نادى مناد: يا أيها الناس ادخلوا مساكنكم لأحطمنكم أنا وقوتي الظاهرة والباطنة ونحن لا نشعر، فهرع الناس إلى منازلهم أفواجا، بعضهم غلق الأبواب والنوافذ، وبعضهم توارى خلف الجدران واكتفى بمراقبة الوضع من خلال كواتها بحذر شديد مخافة أن يكشف سره، وبعضهم امتنع عن الكلام وصار لا يكلم الناس إلا رمزا اتقاء أن يتنصت عليه أحد فيذيع خبره ولو افتراء بزيادة أونقصان أو تأويل كاذب، وفئة أخرى تسمرت أمام منازلها، واضعة أبوابها في منزلة بين المنزلتين، لا هي موصدة نهائيا ، ولا هي مفتوحة بالكامل، إذا استمر الأمر رخاء بقوا بالخارج، وإذا هبت العاصفة دخلوا وأوصدوا الأبواب وثمة طائفة جعلت نفسها عينا للرجل لا تنام ولا تطرف ليلا ونهارا، ولم يخرج عن هذا (الإجماع) إلا فتية آمنوا بآدميتهم وحقهم الإنساني في مقاسمة صاحب الصولة الماء والهواء، تحدوه صائحين بصوت واحد: ليقض علينا جندك، افعل وإياهم ما تشاء، إننا خارجون، لن نخضع ولن نستكين... أصابت الكلمات كبرياء السيد في الصميم، إذ لا عهد له بهذه اللغة وهو الذي اعتاد أن يطاع بالإيماء والتلميح ، وأن ينزل أقصى العقوبات على كل من تلكأ هنيهة في إنجاز المطلوب، فاستشاط غضبا وتوجه إلى أحد معاونيه قائلا: لقد أتى هؤلاء شيئا إدًًًًًًًّا، وأصروا واستكبروا استكبارا، إن هذه لكبيرة من الكبائر التي تستدعي قطع الأرجل والأيدي من خلاف .
رد الرجل بعد أن استنجد كل دهائه: تأتّ للأمر، ليس هذا حلا ، إنهم كالأشجار لا يزيدها البتر إلا قوة ورسوخا في الأرض، لن تأبسهم، بل ستزرع في قلوبهم الأبلات التي ستبقى نارها مأرورة دون أن تجد ما يخمدها، لم لا تلجأ إلى أشياء أخرى أنفع وأجدى مما تفكر فيه؟.
تلقف السيد كلام معاونه وسأله بلهفة ظاهرة: مثل ماذا؟ ، مثل أن نحاورهم، على أن يكون الحوار حوار الطرشان والعميان، نغرقهم في الأماني ونملأ حياتهم أحلاما وردية في الظاهر، وندس الشيطان في التفاصيل لربح أكبر وقت ممكن، نوقع معهم اتفاقا ببنود ملغزة وكلمات مبهمة لا يعرف معناها إلا الراسخون في المكر أمثالنا، ستحتاج كل كلمة إلى مدة طويلة لتستقر على معنى واحد ، وسنناور من أجل أن نزيدها طولا في طول، بهذا سيخفت حماسهم يوما بعد يوم إلى أن ينطفئ نهائيا .
وثب الرجل وأخذ يرقص مما دخله من طرب الحديث، أنت أنت، أعوذ بالله من قضية أنت عنها غائب ، أنت من سيشرف على الأمر من بدايته إلى نهايته، قال الرجل مخاطبا مستشاره.
في اليوم الموالي خرج المفاوض المفوض إلى الجمع، تحدث على غير العادة بلسانهم، عبرعن تعاطفه معهم وعن إحساسه بمعاناتهم ، فلما أيقن أنه أصاب شغاف القلوب، أمطرهم بوابل من الوعود، مقسما بالأيمان الغليظة أن يذيب جليد معاناتهم، وأن يجري دم الحياة في شرايينهم المتصلبة، نضرت الوجوه واستبشرت بالكلام المعسول الذي أحيا أمانيهم الجذباء، فانصرفوا فرحين جذلين، لأنهم اعتقدوا أنهم وجدوا من يأبو عليهم أبوا، جاهلين أن ما رأوه رحمة في الظاهر إن هو إلا ضرب من الأَََبر الخفي .
مرت الأيام تباعا دون أن يجد جديد، أو تنزل ولو قطرة من الغيث الذي وعدوا بأن ينهمر عليهم ، كانت أحلامهم بحجم الجبال، ثم بدأت تتآكل حتى صارت أمما، ورغم ذلك بقيت اليد مغلولة ولم تنبسط ولو بعض البسط ... فلما سئموا من مواعيد عرقوب وأعياهم الانتظار تأثفوا من جديد منددين صارخين ، فإذا الذي وعدهم بالأمس يستمهلهم اليوم بحديث كأنه العسل بأن الإل الذي بينه وبينهم باق، وأنه لن ينكث أو يخون ، مرجعا تأخر العطاء إلى إكراهات أملتها ظروف خارجة عن الإرادة، داعيا إياهم إلى مزيد من الصبر وضبط النفس، كان يعتقد اعتقادا جازما أنه سيرجعهم على أعقابهم كما فعل سابقا... فإذا به يفاجأ بالجمع مرددا بصوت واحد : لن تلدغنا من جحرك وجحر مولاك مرة ثانية، اذهب أنت وإياه بحديثكما إنا هاهنا قاعدون.
امتقع وجه الرجل بعدما أته القوم وبكتوه، وتسلل قاصدا سيده ليتدبر الأمر مادام أن مخدره فقد صلاحيته ولم تعد له قوة التأثير. اقترح عليه بادئ الأمر أن يرسل رسائل تحذير إلى آبائهم عسى أن يضغطوا عليهم بقوتهم الأبوية فيكفوا ويتوقفوا عن نشازهم ، ففعل دون أن يكون لفعله هذا جدوى ، جرب كذلك أن يأتو رؤوسهم بالإتاوات السخية ، ولم تعط فكرته هذه أكلها ، حاول عبثا أن يزرع في صفوفهم الضغائن والأحقاد بالإشاعة والافتراء فخاب ظنه ...
لما استنفذ كل مافي جعبته من مكر وخبث عاد إلى فكرته القديمة اللعينة، فأمر أعوانه بحمل عصيهم الغليظة والانقضاض على أولئك الذين سولت لهم أنفسهم تحديه ، ففعلوا ما أمروا به، وانطلقوا ككلاب مسعورة تاركين وراءهم قلوبهم وضمائرهم ، موقعين في الجمع إصابات بليغة، وملحقين ضررا بينا بالبلاد والعباد ، ثم ألقوا القبض على فئة منهم لتكون للعالمين عبرة... سجلت المحاضر التي تنوء بحمل صكوك اتهاماتها الجبال، وأحضر الشهود في لمح البصر... بيد أن كل هذا زاد الفتية تحديا وشموخا، فقالوا: ربنا السجن أحب إلينا مما ندعى إليه من انبطاح وخضوع وعيش ذليل، هؤلاء قومنا رضوا بالهوان، ونحن لن نرضى بما رضوا به ... ونيجة لهذا (العناد) ضرب السيد على أجسامهم في السجن شهورا عددا ، لكن السجن زادهم إصرارا وزاد القلوب بهم تعلقا، فحج إليهم الناس من كل فج عميق مناصرين ومدعمين،مما عجل بإطلاق سراحهم ، هنالك استقبلوا استقبال الملوك وتغنى الجميع بملحمة التحدي والاستمرار في طرق باب الأمل حتى يطلع فجر الليلة الليلاء الذي لن يأتل ولن يتأخر.