كان مستلقيا على فراشه، والساعة تشير إلى العاشرة والربع. يحاول النوم لكن الفكرة تراوده وتقض مضجعه. ولم لا وهو يفكر منذ أيام في كتابة قصة تكون له بمثابة ولادة داخل ملكوت الأدب والفن.قفز من مكانه ،أخذ القلم وبدأ في التفكير. الجملة الأولى التي ينتظر تكون كصافرة البداية. أشعل سيجارة وبدأ يمرر أصابعه على جبينه. إنها فترة المخاض، يجب أن يعتصر ويدفع بكل قوته لأن المولود لن ينتظر حتى الصباح. جاءت الجملة البداية. الدخان يتصاعد ورماد السيجارة يسقط على المكتب . الدم الأزرق يخط رسمه على الثوب الأبيض بتمعن وفنية. من حين لآخر ، عندما يحس بحرقة جمرة السيجارة، يطفئها ويشعل أخرى. الكتابة مسترسلة والساعة تدور رحاها وكأنها نوتة من قيثارة لا يسكنها سوى وتر واحد "تيك-تاك". غاب عن الوجود، واجتاح عالما آخر، يتمايل معه في صمت ووحدة.
جمل تصطف عارية على الثوب، ثم ثوب آخر، ثم ثوب آخر. عقربا الساعة الحائطية يشهدان جلوسه وخضوعه وهو ممسك في اليد اليمنى عصا سحرية تصلي معه صلاة الولادة، وتسيل أنغامها بتفرد. وفي اليد الأخرى جمرة خبيثة بكل حرقة تعيده إلى الرشد. سافر في حقول الكلام، وعيناه محمرتان. كانت ليلته شديدة البرد ولكنه لم يكن لديه أدنى إحساس بعالمه الواقعي. إنها قصة حب تزيل عنه رائحة النفاق النتنة في زمن غابت عنه الرومانسية وسكن الوهن شوارع الأفكار واندس الخوف خلسة في ثنايا الوجود.
نظر إلى السقف ليتبرك بنزول الوحي، ثم يعود لانحنائه. توقف هنيهة وأ خذ الأوراق وبدأ القراءة ثم تلاها بالتشطيب. إنها كلمات تطفلت عليه ووجدت نفسها تائهة في دروب الكتابة، تحارب بكل قوتها من أجل البقاء. النص أصبح لا ينقصه سوى الرجلين، ولكن للاستمرار، صب فنجانا من القهوة ليسهل الاعتصار ولا تندفع طفيليات الكلمات لتلطخ الصورة المبتسمة كحديقة تتأرجح ورودها مع النسيم العليل بأوجاع يحاول التخلص منها . وهو يحتسي قهوته والسيجارة لا زالت تلوث الغرفة، انزلقت إلى ذهنه فكرة التتمة. انحنى مجددا وهو يبتسم للحظ الذي حالفه هذه المرة. في كل مرة يريد الكتابة، يجد نفسه يعتصر ويعتصر لكنه يرمي بكل أوراقه في القمامة. نصه يكون رديئا، يستحيي قراءة مضمونه. هذه المرة، زحف إليه النص مزغردا، يطلب منه فض بكارته ليخرجه كمولود جميل إلى الدنيا. دقت الساعة الحائطية معلنة الثالثة صباحا بثلاث دقات. نظر إليها، فأهدته العقارب الملتصقة والمتفاوتة في الطول أن الحب الذي يكتب عنه معلق على الجدران. إنه حب أزلي، لا تمحوه محن الحياة.
نهض من مكانه تاركا للكلمات متسعا من الوقت لتنسجم مع بعضها، ثم احتسي جرعة من فنجانه، ودخن السيجارة وأخذ القلم وامتطي صهوة الكتابة. سافر مرة أخرى إلى عالمه الأفلاطوني. عند نهاية القصة، استرخى على الكرسي وكأنه اجتاز مرحلة الولادة بنجاح. بقي لفترة يتأمل السقف وعلامة الابتهاج بادية على محياه. أخذ الأوراق، وانهمك في تنظيف النص من الطفيليات.
دقت مطرقة الساعة أربع دقات. وضع النص على المكتب كما تضع الأم رضيعها لينام في هدوء، وراح إلى النافذة لينعم بفترة من الراحة بمشاهدة الشارع. إنه الفجر يلوح من الأفق. بصر قطيعا من النساء، يرتدين لباسا خشنا وعلى وجوههن خمارا أسود حتى لا يبدين خشونتهن إلا ما ظهر منها. إنهن العاملات في الحقول. امتهن العمل من أجل دراهم لا تسمن ولا تغني من جوع. نظر إليهن وهن يتحدثن عن تعب البارحة، ولكن أصواتهن كانت تثقب السبات. نظر إلى نصه وقصته عن تلك الجميلة التي تقطر عسلا. أنوثة تلك النساء كانت أرجل من الذكورة. طأطأ رأسه وأغلق النافذة في وجه عالم لا ينجب إلا الأسى.
في الصباح أخذ الأوراق في يده وذهب إلى المقهى المجاور. وجد هناك الكاتب المعروف في مدينته. رحب به الكاتب وطلب منه شرب الشاي معه. جلس وقلبه ينفطر سعادة . باغته الكاتب بالسؤال عن محتوى الأوراق التي يحملها. وهو يبتسم بولادته أعطاه الأوراق دون تردد. أخذ الكاتب في زيارة سريعة على المكتوب وهو يهمهم. وضع المولود على الكونتوار قائلا : " جيد، ولكن، كن واقعيا في كتاباتك". أخذ معطفه وهاتفه وحياه وخرج من المقهى.
نظر إليه نصه وهو في حيرة. إن كاتبنا القدير لم يقرأ ولو كلمة واحدة، فما هي الجودة التي تحدث عنها وماذا يعني ب" كن واقعيا "؟ ولماذا الواقع؟ ألم تعتصر طيلة ليلة باردة لتلدني وتفرح بخروجي إلى دنيا الأدب؟ ترى، ما هي النصوص القابلة للقراءة ؟ ربما كان على حق، فأنا قصة لا ينبغي أن تقرأ في زمن غاب عنه العشق وأذاب بأنانيته إنسانية وأدب الأدباء.