الصمت، السواد، الإحساس بالشهوات......
كلها أسرار الليل، حين يصمت الجميع، يرحل الجميع، ويحل الفراغ مالكا حدود الشارع العريض.
الليل موسيقاه خالدة، تتكرر داخلنا كل مرة ولا نحس بالملل، ترغب فيها دائما، إنها لذيذة، دافئة، شهوانية، قليلون هم من يفهمون هذه اللغة، لا يفهمها إلا من تقاسموا معه بعض الذكريات، أولئك الذين اختلطوا بهدوئه، امتزجوا بظلامه مشكلين جسما واحدا ممتدا داخل خلاياهم، فما أجمل أن يعبرك الليل بكل سحره، أن يمتد داخلك بكل خيالاته وأوهامه، بكل سطوته وجنونه، بكل متناقضاته وأشباحه الجميلة التي لا تنتهي.
لكن ما أصعب أن يدركك الليل وأنت لا ترغب فيه، أن يعبرك دون إذن منك، أن يسكن وجدانك وأنت لم تستعد بعد لاستقباله، حينها لن يرسم الهدوء أمامك، لن يدعوك إلى المشاركة في طقوس ولادته، لن يسمح لك بالمشاركة في عرسه الأزلي المتوج بالنشوة الخالدة، وقتها لن تفهم لغته ولا موسيقاه أبدا، بل سينتهي بك الأمر إلى صمت مخيف، إلى عبور وحشي كغزو مغولي، يقتلع فيك كل أسباب اللذة، فيمر ليلك كولادة قسرية فارغة لا تخلف وراءها سوى الصمت، كحمل كاذب يترك وراءه ألف سؤال.
حين يعبرك الليل و أنت لا تفهم السبب، فإن عقابه شديد، لن يسمح لك برؤيته، سيتركك تجري دون توقف، سيجعل أيامك تتشابه، وأشباحك تتنوع، من قطة سوداء بموائها المخيف، إلى كلب محموم ينبح في وجهك وأنت تعبر الشارع الإسمنتي، إلى امرأة عجوز تذكرك بالنهاية.
إنه الليل، ذلك المخلوق السحري، فمن يسكنه الليل يسكنه عالم آخر، عالم جميل يحمل كل المتناقضات، يأتي الليل، فيرتدي الشارع زيا جديدا، فيظهر مخدع الهاتف بلونه الأزرق الباهت.
كان هذا المخدع جزء من أسرار الليل، فقد صار ملاذا لكل عشاق الليل ، أولئك المنسيين الذين لا تحلوا لهم المغازلة إلا في صمته، كانوا يحبون اصطياد الهدوء والكلمات ، يحتمون بسواده كي لا يفضح أسرارهم.
كان هناك مخدع الهاتف، وكانت هناك " كلثوم" صاحبة المخدع، هما وجهان لحكاية واحدة، المخدع مسرح ليلي، وكلثوم بطلته، تلك الحارسة على أسراره، كانت شابة في عقدها الثالث، تعشق الليل، تعشق السهر، تستمتع بهذا المخلوق السحري وما يحمله لها من حكايات وأسرار.
ففي كل ليلة يستقبل هذا المخدع ما لا يمكن الحديث عنه، إنه ثقل مستمر، لا يستطيع أحد تحمله، لكن كلثوم ليست كأي أحد، فصدرها يحتضن بكل عشق أحداث الليل، فتلونها بحسها الدافئ، وتسترها برفق كي تغدو من أسرارها الغامضة.
إنها حكاية كلثوم ومخدعها هذا، كيف تبدأ ليلها؟ وكيف تنهيه؟
عندما يحصل الليل على حقه في الاحتفال، حقه في الانتقال إلى تخوم هذا المخدع المتواضع، تدفع كلثوم عينيها إلى أعلى، ترقب الساعة الحائطية، تنتظر الثانية عشرة موعد إغلاق المخدع الهاتفي، لكن الساعة لا تأتي، إنها فقط الحادية عشرة والنصف، ظلت كلثوم متسمرة بالقرب من الساعة الكبيرة، لا يهمها من الأمر سوى ذلك العقرب الكبير ومتى ينوي التحرك نحو الرقم المنشود.
في لحظة ظنت كلثوم أن كل الأمور عادية، كما تعودتها، الصمت وعدم وجود أي زبون، كل هذه الأشياء دليل على قرب ساعة الرحيل، فجأة تذكرت مفاتحها وأين قد وضعتها.
للحظة بدت كلثوم منهمكة في ترتيب بعض الجرائد وبعض الأوراق استعدادا للرحيل، وإغلاق المحل، لعلها لن تتأخر هذه الليلة، فالجو هادئ، وظلمته لا توحي بالسواد، ولا يوجد أي زبون، فما الداعي للبقاء حتى منتصف الليل، لا زالت كلثوم تبحث داخل ذاكرتها عن موضع المفاتيح ، ربما وضعتها في حقيبتها اليدوية كالبارحة، وربما في جيب جلبابها، احتمالات كثيرة والرغبة واحدة، هي الرحيل، وعدم التأخير، فأبوها يرفض رفضا قاطعا موضوع العمل إلى وقت متأخر، فقد كان يرى فيه إحراجا كبيرا للأسرة، فالليل فقط من حق الرجال ، وكأنهم وحدهم من يستطيعون فهم لغته، وفك طلاسمه المنيعة، وحدهم لهم الحق في التأخر والسهر واللهو مع ظلمته وهدوئه المغري، ومسامرة سواده والاحتفال والتغني بأشباحه وطقوسه، أما المرأة فهي فقط جزء من هذه الطقوس.
بينما كلثوم غارقة في البحث عن تلك المفاتيح اللعينة، حل دون دعوة ضيف الليلة الباردة، إنه زبون آخر الليل، يترامى لك من بعيد، تسبقه قرقبات حذائه الأسود، يتمايل كريشة طائشة تلعب بها ريح الخريف، عيونه النائمة تسابق الضوء المنبعث من المخدع، كان منجذبا إلى الضوء كما تنجذب حشرات الليل إلى العمود الكهربائي.
أحست كلثوم بقدومه، ثم التفتت جهة الباب، كان ظله قد لامس العتبة، لكن انشغالها بالبحث عن المفاتيح الضائعة حال دون الاهتمام بهذا الزائر المتأخر، كل ما استطاعت قوله عندما أدركت أن رجله قد تجاوزت حدود الباب:
--- راه الطناش ديال الليل أخوي، بغيت انسد المحل.
لكن الزبون لم يهتم بكلام كلثوم، فكلاهما كان منشغلا عن الآخر، فكلثوم كان شاغلها الشاغل هو مفاتيحها وأين تختبئ، والزبون مشغول بأفكاره المتطرفة التي بدأت تسكن ذهنه السكران وتدفعه بعيدا عن الآخرين.
دفع جسمه المتمايل إلى الداخل، فركلته عتبة المدخل حتى كاد يسقط، ثم رمى مؤخرته الغليظة على كرسي البلاستيكي أزرق بارد، لكن مجرد ما لامست مؤخرته الكرسي حتى قفز واقفا وكأن حية ما لدغته، نهض وبدأ يحكها بقوة لعله يدفع عنها ما علق بها من برودة توشك أن تضيع نشوته الليلية، ثم اتجه إلى أقرب هاتف ، كلثوم لا تأبه به، فهي لازالت منهمكة في البحت عن مفاتيحها، وهي على العموم لا تحب زبناء آخر الليل، وكما كانت تقول دائما:
--- هاذ أولاد الليل فيهم غير المشاكل.
كان زبون آخر الليل لا يهمه من أمر هذه الليلة سوى استقبال صوت من الضفة الأخرى، فبدأ يبحث في كل جيوبه بوحشية واضحة، وكأن دراهمه في صراع معه، وبعد لحظة قصيرة أخذ درهمين ثم رماهما منتظرا مكالمته الوهمية، كانت السماعة بعيدة عن أذنيه، وعيناه لا تفارق جسم كلثوم، فقد كانت في وضعية تغري بالتفحص، حيث كانت منحنية تحت المكتب دافعة مؤخرتها إلى الوراء، مما جعل زبون آخر الليل يرمي بالسماعة ويقترب من كلثوم قائلا:
--- غزالة وحق الله حتى انت غزالة .
لم تفهم كلثوم من كلامه إلا الشيء القليل، فالحروف كانت تغادر ثغره بصعوبة، وكأنها لا ترغب في المغادرة، لكن طريقة كلامه ونظرته المليئة بالشهوة، جعلتها تدرك أنها أيقظت في هذا المخبول رغبته النائمة، لأن طريقة انحنائها أثارت جنون هذا الزائر، فنهضت بسرعة وعيناها تبحثان عن الساعة الحائطية، كانت العقارب قد تحركت قليلا ، إنها الثانية عشرة إلا ربع، ابتسمت كلثوم وأحست أنه لم يبق إلا القليل، فلا داعي أن تعكر صفو ليلتها بسبب كلمات فارغة لا تحمل معناها من فم فارغ لا يعلم معناها، وعلى العموم فقد تعودت على مثل هذا الكلام، فمجرد ما تطأ رجلها الشارع حتى تبدأ الغارات الكلامية ، والمعاني والتشبيهات
--- الله على غزالة
--- واه على فصالة ديال لحماق
--- منشفوك أزينت القلدة؟
--- أش من نهار تحني على قلبي المكوي؟
كان يصعب حصر مثل هذا الكلام، لكن كلثوم وأمثالها تعودن عليه، حتى صار يؤثث خروجهن ودخولهن.
أحست كلثوم بثقل في رموشها، إنه النوم حين يحط بجناحيه، فلا يسمح لك بالتفكير، فهاهي ملامحها قد بدأت تذبل من كثرة السهر رغم كل المساحيق التي دأبت على استعمالها، كلما همت بالخروج، لعلها تخفي وطأة الزمان، وتضفي بعض البهجة على وجهها المتآكل، لكن المساحيق والألوان قد اختفت، ولم يبق إلا لون بشرتها الأصفر، وذبول تحت الجفون، وبعض التجاعيد التي صارت تؤرخ لعاديات الزمان وكثرة الانتظار.
كلثوم لازالت مجدة في البحث عن مفاتيحها، والمفاتيح لازالت مستمرة في لعبة الغميضة، وزبون آخر الليل لا زال يصارع السماعة صارخا:
--- فلوسي امشاو وأنا ما قلت حتى كلمة
انتبهت كلثوم إلى كومة من الجرائد القديمة، فتذكرت أنها رتبتها زوال هذا اليوم، وقد تكون المفاتيح هناك، ثم اندفعت كالطفلة ترمي بالجرائد في كل اتجاه، كانت عصبيتها ظاهرة، لم يعتد أحد أن يراها بهذا الشكل، وقبل أن ترمي آخر جريدة ظهرت المفاتيح، فأحست كلثوم براحة كبيرة ، وندمت لأنها لم تتخلص من هذه الخردة من الجرائد القديمة وبعض الأوراق ، فلو فعلت لما حدث ما حدث اليوم، فقد أصبحت هذه الجرائد مرتعا لكل ما يريد الاختباء، من صراصير وحشرات لا يعرف أحد مصدرها أو اسمها، في هذه الأثناء التفتت إلى الزبون الذي لازال يهدي كالمجنون:
--- واك واك أعباد الله، فلوسي امشوا وأنا ما قلت حتى كلمة.
كلثوم لا تأبه لكلامه، فهي لازالت تنتشي بلقائها الغرامي مع تلك المفاتيح، فكم أتعبها البحث وأضناها، فلن تضيع لذة اللقاء بالاستماع إلى "خزعبلات" هذا الزائر الثمل، مما أثار غضبه وجعله يرفع صوته بالسب و السخط على كل المخادع أينما كانت:
--- كل هذه المخادع تتشابه، فهي فقط مصيدة للمال.
التفتت كلثوم ناحيته وبدأت تحرك المفاتيح بكل قوة مولدة أصواتا مزعجة لعل الزائر ينتبه إليها ويغادر المحل، فقد تأخر الوقت، فعقارب الساعة على وشك أن تحط عقربيها على الرقم المنتظر، لكن زبون آخر الليل وبكل ثمالته وثقل أصابعه الغليظة لازال يضغط على كل الأرقام باحثا عن لقاء في الضفة الأخرى، باحثا عن عالم يرفض الإفصاح عنه ، فتزايد غضب كلثوم فصرخت في وجهه،
--- اترك السماعة
أجابها وهو يتفحص جسدها النحيف:
--- راه فلوسي كلهم مشوا، وأنا ما قلت حتى كلمة.
بعصبية نادرة:--- أخوي راه تناص الليل أو بغيت نمشي فحالي.
وضع الزبون السماعة بلطف ثمل، ثم رفع عينيه متفحصا الساعة الحائطية، ثم رمى نظرة خاطفة على ساعته اليدوية دون أن ينبس بكلمة واحدة، وكأنه يقارن بين زمان كلثوم وزمانه هو، زمان كلثوم السريع المتبوع بأسئلة بوليسية من طرف الأسرة، وزمانه الثمل البطيء الخارج عن دائرة الوقت، فلا يهمه إن تأخر الوقت أو لا، بالعكس فكلما تأخر وبسط الظلام أجنحته الكبيرة على الشارع العريض كلما ازدادت نشوته بالغياب وتحركت عجلة أحلامه المخمورة، فلزبون آخر الليل زمان خاص به، فالخمرة التي شربها
صنعت له زمانا لا يدري به أحد غيره، تتحرك عقاربه مجرد ما يفرغ كأسه الأولى في جوفه، وتكف عن الحركة مجرد ما تنقشع تلك الغيبوبة اللحظية التي تسيطر عليه.
كلثوم في غضبها المتزايد، فقد صرخت في وجهه أكثر من مرة، لكن زبون الليل لا يهمه من الأمر سوى أن نقوده غادرت دون إذن منه، وأن الساعة المتأخرة لا تعنيه، وأن إغلاق المخدع هو أيضا لا يعنيه.
--- سديه وأنا مالي
--- أسيدي، راه بغيت نمشي فحالي واش تتفهم
--- سيري فحالك واش أنا شادك
بدأت كلثوم تضرب بيديها المكتب من كثرة الغضب ، حينها أحس الزبون عاشق الليل أن الأمر لم يعد يحتمل أي مداعبة، فوضع السماعة برفق شديد ثم التفت إلى كلثوم واضعا كفه الكبيرة على فمه ، معلنا بذلك انسحابه، وقبل أن يبتعد عن الهاتف التفت مرة أخرى متفحصا جسدها من جديد و هو يردد:
--- غزالة وحق الله حتى انت غزالة، ألغزالات ما تيغضبوش
كانت هذه الكلمات الرقيقة كافية بأن ترسم على ثغر كلثوم ابتسامة صغيرة رغم كل التعب والغضب المتزايد، خصوصا وأن الساعة قد تجاوزت منتصف الليل، ولم تغلق بعد المحل، كانت المسافة التي ابتعد بها زبون آخر الليل عن الهاتف كافية لتجعل كلثوم تطمئن، وأن معاناتها مع هذا الزائر قد أوشكت على النهاية، لكن ودون أن تفهم كلثوم ، عاد الزائر الغريب أدراجه في اتجاه السماعة وبدأ يتحسس بأصابعه باحثا عن دراهمه الضائعة، لكنه لم يعثر على أي فلس، فكل الدراهم قد عبرت إلى الضفة الأخرى دون أن يكلم أحدا، ثم التفت إلى كلثوم مشتكيا:
--- وراه فلوسي مشوا كلهم.
كلثوم لا تجيب، كانت تقف بالقرب من مكتبها، منتظرة خروجه، وما هي إلا بضع ثوان حتى لوح بيديه معا معلنا رحيله، وما كاد يضعه رجله اليمنى على العتبة الأولى حتى خانته ثمالته فحالت دون خروجه، حيث اهتزت رجله الأخرى لتدفعه نحو السقوط، ولم يعد يدري أي اتجاه يأخذ، أو أي رجل يرمي، اليسرى أم اليمنى، فقد كانت كل رجل في مكان، اليسرى في اتجاه الباب، واليمنى في الاتجاه المعاكس، وعيناه لا زالتا تحطان على جسد كلثوم ولسانه لا يكف عن معاكستها:
--- اغزالة وحق الله حتى أنت غزالة .
--- الله.. وجهك زين ولكن صفر بزاف
أحست كلثوم أن الزبون المخمور قد وضع أصبعه على الجرح القديم، ذلك الجرح الأثري الذي لطالما حاولت أن تداريه ، فمهما اجتهدت في وضع المساحيق والدهون لإضفاء قليل من البهجة على بشرتها المتعبة، وبسمتها الذابلة، فالزمان قد قال كلمته الأخيرة، فقد ظهرت بعض الشعيرات البيضاء الغير المرغوب فيها، وبعض التجاعيد التي بدأت في الآونة الأخيرة تنبت أسفل العينين.
صارت كلثوم تغضب بسرعة ولأتفه الأسباب، كانت تكره كل من يذكرها بسنها أو بموضوع الزواج، كان هذا الأمر يضايقها كثيرا، خصوصا وأن كل صديقاتها قد تزوجن باكرا ومنهن من أنجبت أولادا وبنات، وهي لازالت كالبيت الموقوف، صارت مهووسة بأمر بشرتها وكيف تضفي عليها شيئا من البهجة والجمال و الحيوية، فكانت تجتهد في إخفاء تلك الخصلات البيضاء التي بدأت تتخلل شعرها الخفيف، وتلك التجاعيد الآثمة التي صارت تحتل جلدها، فتنتشر من أسفل العينين في اتجاه الخدين، فصارت تضع كل أنواع المساحيق والدهون الطبيعية والغير الطبيعية، وحتى تلك الوصفات الشعبية التي تحمل معها بركات بعض الصالحين، فقد صار كل شيء جائز في هذه المعركة المصيرية لعلها تظهر ببشرة فتاة في العشرين.
لكن زبون آخر الليل كان دقيق الملاحظة رغم ثمالته وتمايله الشديد، فقد جعل كلثوم تدرك أن كل تلك المساحيق و الدهون، وكل تلك الوصفات السحرية لم تستطع إلغاء آثار الزمان وعناوين الكبر، لكن ما عساها تفعل، فلا يعقل أن تستمر هذه الوصفات في تأدية دورها كل هذه المدة الطويلة، فمن الثامنة صباحا إلى غاية آخر نقطة من الليل.
التفتت كلثوم إلى الزبون وكأنها تعاتبه في صمتها الجريح على ما بدا منه من كلام في شكلها المتعب، وفي شكل زينتها المبعثر.
أحس الزبون بشيء من الملل، ولم يعد يحتمل برودة هذا المحل وصاحبته، فعزم على الرحيل، تنفست كلثوم الصعداء، فها هو الزبون المزعج قد هم بالخروج، وستغلق المخدع مباشرة بعد خروجه، اتجهت كلثوم نحو حقيبتها اليدوية ، وفي لحظة ظنت أن كابوس الليلة قد انتهى ، فسرت رعشة خفيفة عندما تذكرت غرفتها الدافئة والغطاء الصوفي المرمي بالقرب من رجليها، ، لكن ولا أحد يدري كيف وقع ما وقع، صار الزبون كالريشة الضائعة في الهواء، فقد خانته هذه المرة ثمالته أكثر من اللازم، فلم يدري كيف التوت رجله اليمنى، فاليسرى، ليجد نفسه قد ودع توازنه ليرتمي على واجهة المخدع مخلفا صوتا مريعا، دفع بكلثوم أن تصرخ صرخة قوية جعلت الكل يفزع في نومه.
--- ما الذي جرى؟
كان الزجاج في كل مكان، وزبون آخر الليل مرمي بالقرب من الباب والدماء في احتفالها الليلي، ولا أحد يدري مصدرها أو أي جزء من جسمه قد تأذى، هرعت كلثوم مفزوعة ، كان الخوف هو سيد اللحظة، حاولت حمله بعيدا عن الدماء والزجاج، لكنها لم تستطع، فثقل جسده كان أثقل من كل إصرارها، كانت الدماء مستمرة في السيلان، وزبون آخر الليل يمعن النظر في جسد كلثوم حيث اقتربت منه هذه المرة أكثر من اللازم، فرفع رأسه بجهد كبير قائلا:
--- وحق الله حتى انت غزالة، وخ امشوا فلوسي
كلثوم في خوف مريع، لا تدري ما عليها فعله، أتتصل بالشرطة أم بالإسعاف؟
--- نعم سأتصل بالإسعاف أولا، لا..لا.. الشرطة أولا، الساعة لا تعرف الملل، إنها الثانية عشرة والنصف، كلثوم تأخرت على غير عادتها، ولن يتفهم أحد ظروفها، فأبوها ولا شك قد بدأ يمارس رجولته الوهمية، لاعنا كلثوم وما قد تفعله الآن، فالكل قد عاد إلى وكره حتى الحيوانات والحشرات إلا هي، أمها كغيرها من النساء، لا تملك لنفسها ولا لابنتها سوى الخضوع، وانتظار بالقرب من الباب، لعله يفتح فتدخل كلثوم وينتهي موال الليلة العنيف، في انتظار موال الغد وخوفه وهواجسه.
صارت أرضية المخدع ملونة بدماء زبون آخر الليل، اختلط اللون الأزرق بالأحمر فلم تعد هناك ملامح واضحة، وحده الليل لا يخضع للخوف، لا زال في امتداده، يدفع سواده دون توقف، كلثوم لازالت جالسة بالقرب من الزبون، تنتظر من يتخذ القرار، الزبون فيودع جسده، أم هي فتتصل بأي كان.
كان لا بد من اتخاذ القرار، وبعد لحظة توقف فيها كل شيء، حتى السواد توقف ، ولم يعد يرغب في مغادرة المخدع، قررت كلثوم أن تتصل بالشرطة أولا.
--- ألو البوليس
--- إيه، البوليس، آش كاين؟
--- الله يخليكم واحد السيد مجروح عندي في مخدع للهاتف
--- واش كاين الدم؟
التفتت كلثوم إلى أرضية المخدع، كانت بقعة الدم قد شكلت بحيرة صغيرة يطفو عليها جسد هذا الزائر الغريب، استغربت كلثوم عندما طلب منها الشرطي هل هناك دم، وكأن هذا الأخير هو الدافع الوحيد لتحركهم.
--- واش كاين الدم؟
كان الدم بالنسبة للشرطة إغراء يستحق المجازفة، وغيابه يعني لا شيء، فالأمر سينتهي ولا شك بمصالحة مجانية بين الخصمين، فلا داعي لإزعاج السلطات.
صرخت كلثوم في ذلك الشرطي قائلة:
--- تتقلب على الدم، أجي اتشوف بعينيك، ألا بغيت الدم إوصل عندك باش تصدق.
ثم وضعت السماعة وهي تلعن مثل هذه العادات السخيفة:
--- اتفو شحال عزيز عليهم الدم.
وبعد صمت لم يعمر كثيرا، أخذت كلثوم السماعة من جديد لتتصل بالإسعاف، عسى أن يأتوا قبل فوات الأوان.
--- ألو البامبيا؟
--- نعم آش كاين؟
--- الله إخليك أسيدي، راه واحد السيد مضروب عندي فالمحل ديال التيلفون.
--- سمعي أللا، واش كاين الدم؟
التفتت كلثوم من جديد تتفحص الزبون المرمي على أرضية المخدع والدماء في احتفالها الكرنفالي، ثم رمت بالسماعة لعل هؤلاء العاشقون للدم، يشمون رائحته فيتحركون.
لازال الزبون يتلوى في دمائه كخروف العيد، ينكمش تارة ويتمدد تارة أخرى، وفي كل مرة يرفع جاهدا رأسه مناديا كلثوم، فتقترب منه حتى تلامس جسمه البارد، ليبدأ أغنيته الغرامية دون الاهتمام بكل الدماء التي تغادر جسمه دون إذن منه:
--- الله، ريحتك شحال زوينة.
--- أسيدي نوض بارك من اللعب، واش أنت في الدم لخارج منك، أو في ريحتي؟
--- راه فلوسي مشوا وأنا ما هضرت مع حتى واحد
--- ماعليش، غير نوض ، أفلوسك غادي نعطيهم لك.
كانت الساعة في مرحها المستمر، تدفع عقاربها إلى أبعد نقطة ممكنة، وزبون آخر الليل ممددا في دمائه ينتظر اتصالا من الضفة المجهولة، كلثوم في حيرة من أمرها، أتتصل بالشرطة مرة ثانية؟ أم تتصل بالإسعاف؟أم تنتظر بزوغ ضوء الفجر لعله يحمل فرجا، أو يمر أحد المبكرين بالقرب من المخدع فيساعدها للخروج من هذه الورطة.
وفي لحظة ظنت أن الليل لن ينتهي، وأن ما تنتظره شيء من المستحيل، فجأة تذكرت إحدى صديقاتها، كانت دائما تحدثها عن صديق لها من رجال الشرطة، تغيرت ملامح كلثوم وكأنها وجدت حلا لمصيبتها، ثم اتجهت نحو المكتب فأخذت مذكرتها الشخصية لتبحث عن رقم هاتف صديقتها، كانت تقلب الصفحات بجنونية غريبة، أحست وهي تضع أصبعها الصغير على أرقام هاتف صديقتها أنها لا تشبه الأرقام الأخرى، وحدها تحمل قيمة غريبة، ولا يمكن لأحد أن يحس بما تحس به كلثوم هذه اللحظة، ثم ارتمت على أقرب سماعة وبدأت تضغط على الأرقام بسرعة وكأنها تسابق تلك الدماء المغادرة، وبينما هي في انتظار الصوت المرغوب، أحست بشيء يتحرك بالقرب منها، إنه زبون آخر الليل، يتمايل وحده، والدماء لازالت تتقاطر من جسمه النحيف، لا أحد يدري كيف قام وتجاوز حدود موته الأكيد، اقترب أكثر فأكثر من كلثوم وهو يتفحص جسدها المنهوك، وهي فاقدة الاتصال بذهنها، لا تفهم ما الذي يجري، كان وقوفه بجانبها وهو يعارك آثار الصدمة والثمالة التي لازالت تلاحق دماغه،إنه شيء لا يصدقه العقل، فكل هذا الهلع والدم والاتصال بالشرطة والإسعاف كان بدون فائدة، صار المشهد غريبا، كان صمت كلثوم وذهولها لدليل على أن ما حدث الليلة شيء لا يصدقه العقل.
رفع زبون آخر الليل يده معلنا انصرافه، كان في كل مرة يتحسس رأسه، وعيناه لا تفارق جسد كلثوم، فرغم كل الدماء التي غادرت جسمه، فإن شهوته لم تخنه لحظة واحدة.
اقترب من كلثوم، فأخذ بطرف جلبابها قائلا:
--- أغزالة وحق الله حتى أنت أغزالة.
بقيت كلثوم واقفة لا تفهم ما الذي يجري ،أو ما الذي عليها فعله، فهاهو زبون آخر الليل قد هم بالخروج، حاولت كلثوم أن ترافقه إلى مقربة من الباب، خشية أن يتكرر الأمر من جديد، فلازمته كلثوم حتى خرج من المخدع وابتعد بما فيه الكفاية.
عادت كلثوم إلى مخدعها، فأخذت المفاتيح و أغلقت الباب بسرعة فائقة تاركة كل شيء على حاله، أرضية المحل ملطخة بالدماء، وأوراق الجرائد مبعثرة في كل مكان، تشهد عاصفة هذه الليلة، السماعة تتدلى في انتظار اتصال من الضفة المجهولة، وكأنها لا تريد أن تتخلص من آثار هذه الليلة المشؤومة، ترغب في بقاء كل الأدلة الشاهدة على أن ليلها لم يكن عاديا، وأن مشهدا جديدا قد انضاف إلى ذاكرتها.
كانت كلثوم تدرك ما ينتظرها في البيت، شريط من نوع آخر، أبطاله معروفين، اعتادوا لعب نفس الأدوار، نفس الحوارات، عتاب وسب ومؤاخذة عن تأخيرها المتكرر، فلا أحد يسألها السبب، كل ما يهمهم هو التأخير وما يسببه من حرج للأسرة، خصوصا في مثل هذه الأحياء الشعبية، التي تنتظر زلاتك بشغف جنوني.
لازالت كلثوم تشق طريقها مبتعدة عن مخدع الهاتف، وقبل أن تبتعد كفاية، التفتت وكأنها تريد التأكد من مسارها، وأنها لم تنحرف عن الطريق، وأن المخدع لازال في مكانه يشهد على أحداث الليلة، وأنه كالعادة ينتظر بزوغ فجر جديد، وأحداث جديدة.
غابت كلثوم في عباب الظلام، تتحرى مصيرها المحتوم، وقبل أن تطأ تراب حيها، التفتت مرة أخرى قائلة:
--- الله ينعل هذه الليلة.