قسمة ضيزى
النصيب الأول
ريح الشركي
هب من نومه منزعجا بعد إلحاح دقات الساعة البيولوجية المضبوطة على بزوغ الشمس من المشرق المعتم. أطل من نافذة غرفته المواجهة للمحيط الهادر المزمجر، السماء ملبدة بالغيوم، وبرد الصباح القارص يقشعر له الجسد مع بداية منزلة "اللَيالي".
كان صباحا صقيعيا من صباحات شهر يناير القارصة البرودة، على سطح الخرسانة الجديد، وقد أخلف المطر موعده مما زاد من قسوة البرد، وقف عامل البناء بوجهه الأسمر سمرة ضاربة نحو الزرقة، تلك الزرقة التي تكسوا المنخنقين حتى الموت، ويدين جافتين عزلت عروقهما و برزت كحبال تكسوا ظهريهما ممتدة نحو الأصابع ، كجذور "الأوكاليبتوس"حينما تكون قريبة من سطح الأرض، وتشقق جلدهما كما يتشقق وجه الأرض من شدة هبوب ريح الشمال الباردة الجافة، أتذكر جدي رحمه الله، كان يصفها دائما بقوله: " الشركي ينشف الأرض و يقسح لقلوب" .
يمسك خرطوم الماء لرش بلاط الخرسانة ، وعوض تصويب الماء للأسفل،يقوم بتوجيهه المياه المتدفقة نحو الأعلى،ضاغطا على مخرج الخرطوم بإبهامه لتقوية الضغط وتشتيت صبيب الماء الذي يتحول إلى رذاذ يتناثر حوله ،عيناه مصوبتان نحو المجهول،فكره شارد في اللآمتناه، ربما يقوم باستفزاز السحب الشحيحة التي تحتل كبد السماء ،أو ربما يأمل في أن يتحول ماء الخرطوم إلى مزن مطير يساقظ على الأرض مدرارا فيعود عامل البناء إلى أرضه التي يهددها الجفاف بالبوار،وإلى أهله اللذين أبعدته عنهم الحاجة ،يفتقدهم وسط لغط العمال أمثاله في متاهة الشغل الطبخ و الغسيل و أوامر الرئيس وتهديده وتوعده و وعيده.
يستفيق على انقطاع صبيب المياه من الخرطوم إثر مرور إحدى الآليات فوقه،فيهرع لإعادة وصله وإحكام ربطه بالصنبور.
رغم نزول الأمطار بعد أيام ، لم يتغيب عامل البناء ، لم يرحل لأرضه وأهله، واصل مواظبته على الحضور إلى الورشة، مؤجلا لقاء واحتضان أطفاله و زوجته، عوضهم ذلك بحوالة في أول كل شهر ، مستعيضا عنهم بالتفرج على الأطفال في الشوارع والأزقة، و بموميسات المدينة اللآئي يتبنذلن على الأرصفة. كما استعاض عن ثمار أرضه بأجر يومي من رب العمل في ورشة البناء تحت صراخ الرئيس وتهديده ووعده و وعيده .