كان يجلس فوق صخرته المعهودة ..والموج الغاضب يحاول ايقاف شروده..كم هي رتيبة هاته الاوقات ..وكم هي بطيئة عقارب الساعة السلحفاتية المتحركة بعبثية وملل..
كل يوم يجوب الاماكن التي طالما واظبا معا على زيارتها ..يتذكر ..يستلهم من الماضي ذكريات مضت ولن تعود..يتصفح الرمال بحثا عن آثار أقدامها..وخطى كانت بالامس تطبع طريقهما بالامل والفرح والابتسامة..
من هنا مرت..وهنا جالسا بعضهما البعض..تأملها ..شد على يديها..تحسسها بدفء المشاعر..أخذها في رحلات ومغامرات لم تكن لتحلم بها أو تخلد بذهنها من قبل..سافر بها عبر معالم ومدائن ساحرة..ولما استفاق وجد نفسه وحيدا..يعانق الفراغ..يعانق السراب..يعانق اللاشئ..
مرهق التفكير..حتى مخيلته تجتاحها صورها هي ..يحاول النسيان أو التناسي لكن تقض مضجعه..دائما معه في نومه وفي يقظته..دائم التفكير فيها لدرجة الادمان.
وحيدا هو ..يحاصره الملل..يدخن سيجارته..ينفث دخانها المتصاعد في تجليات بين النار والرماد..انها لحظة التوحد والعري..يتربص الزمن عبر شرايين الامكنة ..يستحضر الذكريات..يتيه داخل عوالم لم يتبق منها سوى الصور..صور تخلد ..وأخرى تغتال..يفر نحو أعماقه لدرجة انصهار الجسد..بحثا عن أجوبة لتساؤلاته..عن ظله الذي تقلص مداه على الشطآن..عن اختلاج روحه داخل متاهات الصمت الرابض على شفتيه..يرتوي من بقايا زمنه المغمور..يعتقله..يغتاله ألف مرة فوق السطور..
غادرته لحظة اشراق..تركته يلوك أيامه وسويعاته...سافرت بعيدا محتضنة روحا أخرى وعالما آخرا..لم تودعه لم تعد تتصل به أو تهاتفه..ليتوقف الزمن عند آخر معاقل الهجر..يحصد ما تبقى من الذكريات..يجترها أشواك صبار..حتى الآخر لم يعد يناديه (بخالي) ..انه حلم اليقظة ..ولحظات التيه..ينساب الزمن عبر هذا الصمت العاري المترامي في أحضان هلامية الاشياء..يغوص في بحيرة الاحلام والاوهام..ومستنقع من تساؤلات لا تنتهي..
سار نحو الشاطئ ..لامس بقدميه موجه في حميمية وقال: أيها البحر الطيب ..اشهد أني كنت يوما هنا ..أرسم فوق رمالك ذاكرتي الموشومة بعبق الاماني الجميلة...وهنا نقشت على صدفاتك حلمي الوردي..أخط على صخورك عذاباتي بدمي القاني ووحدتي ..وهاته النوارس التي شهدت فرحتي تقف اليوم متجمهرة ..تشيعني بحسرة..وتلك جدران اعدادية علال بن عبدالله تشهد على لمسات أناملنا..
أيها البحر الطيب ..حافظ على ذكرياتي وأيامي..فأنت خير من سيحافظ عليها بعدي..وأشكرك لأنك كنت نعم المؤنس والصديق..
اهتزت أمواج البحر بشدة حتى لامس رذاذها جسده المنهك..كأنها تبكي لفراقه..واشتد التلاطم ..ورغم هذا الغضب ناجاه البحر قائلا: ارحل ولا تحزن..فلن أنس أنك كنت تأتي لزيارتي كل فجر والناس نيام ..لم أشهد طيلة حياتي أبا وانسانا في مثل طيبتك وعذوبة عواطفك..وتأكد أن ذكرياتك هي جزء مني ..سأحرسها وأحافظ عليها الى ما شاء الله..ويشرفني أن تكون صديقي ..ويؤسفني أن تودعني ..وصعب على المرء أن يفقد من أحبهم ..وكيف للجراح أن تندمل وقد أدميت ..واكتوت بنار الهجر والفراق..ارحل وتيقن اذا عادت يوما وسألتني عنك ..سأخبرها أنك رحلت مكرها ..بعدما وقعت رحيلك باللون الاسود